اعتمد مجلس الشيوخ الأميركي الأسبوع المنصرم تعيين القاضي «بريت كافانو» قاضيا تاسعا في المحكمة العليا بعد أشهر من صراع سياسي وحزبي داخل أروقة المجلس، وعبر صفحات وشاشات الإعلام، بين يمين يدفع نحو تعيينه لتغليب كفته في قرارات المحكمة، وبالتالي العمل على تعديل الكثير من القوانين التي تتناقض مع مبادئه، ويسار يعمل على إفشال التعيين خوفا من إمكانية إعادة النظر في الكثير من تلك القرارات التي تصب في صالح توجهاته في قضايا الحقوق المدنية وغيرها.

ربما تابع الكثير من القراء الكرام ما حدث للقاضي قبيل اعتماد تعيينه بأغلبية ضئيلة، عبر اتهام سيدات له بالتحرش الجنسي أيام دراسته وتشكيكهم في قدراته، على أن يكون قاضيا محايدا يضع القانون ومصالح الشعب كأولوية، متغلبا على توجهاته الفكرية وانتماءاته العقائدية، وهي الاتهامات التي لم يستطع تحقيق خاص قام به مكتب التحقيقات الفدرالية إثباته مما دعا المجلس للتصويت بقراره وتأكيد تعيينه.

تعيين القاضي يعد انتصارا للرئيس الأميركي دونالد ترمب في كونه ضمن ترجيح كفة اليمين المحافظ كمسيطر على المحكمة العليا، خصوصا وأن كافانو هو المرشح الثاني الذي يرشحه الرئيس ويحظى بالاعتماد ليصبح عدد القضاة المحافظين المنتمين لتوجه الرئيس خمسة بمقابل أربعة يميلون لليسار الليبرالي الخصم اللدود لترمب.

ولكن بعيدا عن تجاذبات المواقف السياسية والحزبية والإعلامية والاتهامات الأخلاقية التي اتسمت بها عملية الترشيح والاستجواب والتحقيق، يبقى فهم طبيعة مواقف القاضي كافانو من القضايا الجوهرية هو الأساس الذي من خلاله يمكننا فهم القضايا الداخلية التي تؤثر فعليا في الشارع الأميركي بكل تعقيداته الفكرية والحزبية، والتي تعد الأساسيات التي بها تشن الحروب الانتخابية وتحدد توجهات الناخبين والمرشحين.

ربما أهم تلك القضايا التي يختلف الطرفان بخصوصها جذريا هي حق الإجهاض، والذي أصبح مسموحا به منذ أن صدر حكم المحكمة العليا التاريخي عام 1973 في القضية الشهيرة «رو ضد وايد»، فقد عرف عن القاضي كافانو أنه مع التوجه الموصوف بـ«مع الحياة» المناهض للتوجه الموصوف بـ«مع الاختيار»، حيث كان موقف القاضي ميالا لـ«مع الحياة» وفق شهادته وكتاباته السابقة التي تقترح أنه سيسمح للحكومة بتنظيم الإجهاض بشكل أكثر صرامة، مع فرض متطلبات إضافية قد تؤخر وتعطل الإجراء أو القواعد على الأطباء الذين يؤيدون ويقومون بعمليات الإجهاض، وهو موقف يراه اليساريون أنه تمهيد لمشروع محافظ لإجهاض هذا الحق الذي كفله الدستور وفق قرار المحكمة آنف الذكر.

من جانب آخر فإن ترمب كما يقول الديمقراطيون يتجه بالبلاد لنظام يعمل فيه الرئيس دون مراقبة ومعاقبة، وأن كافانو سيفسح له المجال لذلك، حيث إنه يرى بأنه ليس من حق أي سلطة من السلطتين في أميركا أن تستدعي رئيسا أثناء شغله منصبه، ويستندون في ذلك على تهربه من تحديد موقفه من هذا الموضوع، حيث إنه عندما سأله السناتور الديموقراطي «ديان فاينشتاين» إذا كان من الممكن إجبار رئيس في منصبه على الرد على أمر استدعاء رفض كافانو عرض وجهة نظره، واكتفى بالقول «لا أستطيع أن أعطيك إجابة على هذا السؤال الافتراضي».

نقاط الخلاف بين كافانو واليسار متعددة يصعب شرحها جميعها في هذه المساحة الضيقة، ولكن سأشير لها بشكل سريع وربما أتوسع فيها في مقال وموضع آخر، فإلى جانب قضيتي الإجهاض والحقوق التنفيذية للرئيس هناك مواقف القاضي من حقوق حمل السلاح والحقوق الدينية والقوانين التي تحكم محاربة الإرهاب، إلى جانب نظرته في مسائل حقوق التصويت والتغيير المناخي والقوانين التي تحكم تنظيمات الأعمال ومؤسسات الدولة، إلى جانب التنظيمات المتعلقة بتمويل الحملات الانتخابية، والتي جميعها تعد ميالة للموقف المحافظ الجمهوري منها لرؤية وسياسات اليسار الديمقراطي المعارض.