غرد أحدهم قائلا: «حرموا القهوة ثم شربوها، حرموا الآلة الطابعة ثم طبعوا كتبهم فيها، حرموا التصوير ثم تسابقوا لنشر صورهم، حرموا مشاهدة القنوات ثم ظهروا على شاشاتها، وكلما حرموا شيئا جديدا لم يلبثوا أن تراجعوا عنه بحجة المصلحة».

التغريدة لخصت بمهارة ما يتداوله الكثيرون ممن يحاولون هدم ثقة المجتمعات بأهل العلم الشرعي عبر تكثيف الحديث عن وقائع شبيهة بما أورده المغرد حتى يصلوا بالفرد والمجتمع إلى قناعة بعدم جدوى أن يبحث الناس فيما يحل بهم من مستجدات عن رأي أهل العلم، وربما رأى بعضهم عدم الجدوى من أن يكون هناك علماء في الشريعة أصلاً.

ومثل هذه النتيجة المطلوبة من أخطر ما يُمكن أن يتصوره المفكر المنصف مما يُمكن أن يحل بالمجتمعات المسلمة من دواعي التَّغَيُّر السلبي والانتكاس على الأعقاب.

وذلك: أن سقوط مرجعية العلماء في بيان أحكام الشرع يعني الانفلات عن الشرع بالكلية، وهذا حقا ما حصل في المجتمعات المسلمة التي تم تفريغها من العلماء أثناء حقبة الاستعمار وما بعدها، حيث وصلت الكثير من المجتمعات المسلمة إلى فقدان الهوية فقداناً كاملاً، بحيث نراها اليوم تعيش فوضى كبيرة بعضها في محاولات التفتيش عن الهوية، والبعض الآخر في محاولات الرجوع إلى الوراء لاستعادة الهوية، حتى إن بعضها اليوم تحاول استعادة البنية العلمائية وتعيش اضطرابا كبيرا في هذه المساعي.

حقا: إن ضرب الأمثلة سيفيدنا في توضيح هذه الحقيقة كثيرا، لكنني سأستعيض عنه ببصيرة القارئ وحسن تأمله لما يقع حوله، لأنني لا أريد أن ينشغل القارئ عن رسالة المقال بمناقشة الأمثلة، ورسالة المقال هي إنصاف العلماء، وإسقاط ثمرة تلك التدوينة من التزهيد في مرجعية العلماء في بيان أحكام المستجدات الحديثة.

فالعالم الإسلامي عاش مع علماء الشريعة ما ينيف على ألف وأربعمئة عام في رقعة جغرافية تتجاوز العشرين مليون كيلو متر مربع عاش فيها في تلك الفترة الطويلة مئات الآلاف من العلماء، والمدونة تراجمهم منهم في كتب التراجم يزيدون على الخمسين ألف عالم، دون من لم تُحْصَ تراجمهم ولا أسماؤهم، ولهؤلاء العلماء مئات الآلاف من الفتاوى في كل المسائل الفقهية الدائمة والنازلة ومئات الآلاف من الكتب المخطوطة والمطبوعة، وبهذا نعلم أن حجم الفقه الإسلامي وأهله في التاريخ عظيم جداً لا يضاهيه حجم العلماء في تاريخ أمة من الأمم.

وهم قبل غيرهم يُقِرُّون بعدم عصمتهم، وتعرضهم للزلل والخطأ والنسيان كما يتعرض غيرهم من البشر، ومع كل هذا نجد أن أخطاءهم في تقدير المستجدات والحكم عليها نادرة جداً إذا ما قيست بحجم المستجدات عبر كل هذا التاريخ العريض والمساحة الجغرافية الشاسعة والإنتاج العلمي الزاخر.

فقد شهد التاريخ الإسلامي استقلال كل العلوم التجريبية عن الفلسفة، وأصبحت علوما قائمة بذاتها ولها أهلها ومتخصصوها، وهذا ما لم يكن قبل الحضارة الإسلامية، فاستقلت الرياضيات بأفرعها والميكانيكا والكيمياء والفلك والجغرافيا والطب والهندسة، ولم تشهد الفتوى الفقهية وقوفاً في وجه هذه العلوم، إلا ما كان من دخول الخرافة في علم الكيمياء ومحاولة بعض منتحلي هذا العلم خداع الناس بزعم قدرتهم على تحويل المعادن إلى ذهب.

أما سبب توقف تطور هذه العلوم فقد كان جراء دخول علم الكلام والميتافيزيقا من الرومان واليونان إلى المسلمين، مما شغل النبهاء والأذكياء عن المحسوسات وتطوير علم التجريب إلى التعلق بالغيبيات وإطالة البحث فيها، وانصرافهم بالتالي عن التطور التكنولوجي.

كما أن الامتداد التاريخي والجغرافي للأمة الإسلامية أدخل الفقه الإسلامي في أمم وشعوب وعادات وطبائع لا حصر لها، واستطاع دون عناء أن يُكَيِّف كل ذلك أو يتكيف معه مع اتخاذه وضع المحور الذي يدور كل شيء عليه ويتأثر به، ولم تعان الشعوب الإسلامية على مدى هذين الامتدادين، أي إشكالات تحول بينهم وبين الانسجام مع الفقه والفقهاء والاستجابة لهم.

وحين نقرر أن الفقهاء على امتداد الزمان والمكان واختلاف البقاع والطباع أخطؤوا ثم تراجعوا عن خطئهم في عشرين أو ثلاثين نازلة فما العيب وما الإشكال؟

هذا إذا كانوا قد أخطؤوا في كل ذلك فعلا، فكيف إذا كانوا في ذلك لم يُخْطِئوا، بل كانت فتاواهم مقترنة بأسباب وأحوال، فلما تغيرت تغيرت الفتوى تبعا لتغيرها، وبذلك يكون هذا التغير دليل إيجابية في ذوات الفقهاء وفي الآلة العلمية التي يستخدمونها.

وبه يكون المخطئ الحق هو من يحاول إسقاط الفقه برمته والفقهاء بكليتهم من أجل عشر أو عشرين فتوى ليس الخلل فيها غالبا، وإنما الخلل فيه هو، حيث لم يَبْنِ حكمه على تلك الفتاوى على معطيات صحيحة.

ولنقصر حديثنا على الأمثلة التي ذكرها المُدَوِن لتكون دليلا على مكانة ما عداها من الأمثلة.

فالمثال الأول تحريم القهوة، وهي فتوى لم يتفق عليها العلماء في زمانها وهو القرن العاشر الهجري، حيث ذهب بعض علماء مكة ومصر والشام إلى تحريمها، والأكثرون إلى إباحتها ثم لم يلبث الإجماع أن انعقد على الإباحة، كما يحكيه الغزي في الكواكب السائرة [تـ977هـ]، وسبب تحريم من حرمه ورود معلومات خاطئة عن هذا المشروب الجديد، فقد وردهم باسم القهوة وهي من أسماء الخمر عند العرب، ووصفت لهم بأنها مغيرة للعقل، وكانوا يضعون لها في الشام ومصر مقاهي تشبه الحانات يُجتمع عليها بالطريقة نفسها التي يجتمع فيها على الخمر، فأعطى كل هذا انطباعا بأنها مقيسة في حكمها عليه، يضيفون إلى ذلك بعض ما كان متداولا من أضرارها كخطرها على الذاكرة والعقل.

وكل تلك الأمور لو صحت لكانت القهوة حراما بالإجماع حتى يومنا هذا، وحين اتضحت الرؤية تغير الحكم عند من كان يحرمها وهم الأقلون كما تقدم النقل عن الغزي.

أما الآلة الطابعة فتحريمها كان بالحروف العربية، وهو خطأ من علماء إسطنبول وحدها في عهد بايزيد الثاني [تـ918هـ] وما بعده إلى أن تم الإذن بها في عهد السلطان أحمد الثالث [تـ1149هـ]، ولم يشارك في هذا الخطأ أي من علماء المسلمين الذين تقبلوا الطباعة دون نقاش فور وصولها إليهم، وقد أنشأ محمد علي باشا أول مطبعة في مصر عام 1237هـ ولم يواجه بتحريم الأزهر كمؤسسة مسؤولة عن الفتوى للطباعة، وإنما كان هناك فتاوى متفرقة بعدم طباعة الكتب الدينية بدعوى أن ذلك يُضعف طلب العلم الشرعي المعتمد على الحفظ، وأن الطباعة ستؤدي إلى قتل تلك الموهبة، وهذا ما عبر عنه أيضا العالم المغربي المتأخر زمنا عن هذه المرحلة محمد بن إبراهيم السباعي [تـ1332هـ] في رسالته: رسالة في الترغيب في المؤلفات الخطية، والتحذير من الكتب المطبوعة، وبيان أنها سبب في تقليل الهمم وهدم حفظ العلم ونسيانه، وعنوانها كما ترى يعبر عن علة المنع الذي لم يكن أصلا لدى العلماء سوى في تلك الحقبة من الدولة العثمانية، وللدقة في الحكم فإنني لم أجد صورة لقرار منع الطباعة الذي يحكي المؤرخون أن السلطان بايزيد الثاني أصدره، ولا صورة من فتوى شيخ الإسلام العثماني في ذلك الوقت، وغالب ظني أن المنع من الطباعة في ذلك الزمن العثماني لم يكن فقهيا، بل كان سياسيا واقتصاديا تم تصويره لأغراض ما في صورة الشرعي، وبعض الباحثين يؤكد ذلك بأن الخطاطين في إسطنبول كانوا يشكلون قرابة الخمس من سكان المدينة، أي تسعين ألف خطاط، فضلا عن غيرها من المدن، وكان السماح بالطباعة يعني عطالة كل هؤلاء الأعداد.

أما التصوير الفوتوجرافي فحقا حرمه أكثر العلماء في العالم الإسلامي بداية ظهوره، وظل القول بتحريمه يتقلص حتى يومنا هذا، ولا يزال هناك من أهل العلم الثقات من لا يزال على القول بتحريمه.

لكن القول بتحريمه لم يكن تشهيا أو تشددا أو تقليدا، كما أن القول بإباحته لم يكن كذلك،

بل إن وراء ذلك قواعد فقهية صحيحة، فالنص النبوي الصحيح دل على حرمة التصوير قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون)، وقال: (من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ)، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: (إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم).

فهذه النصوص الصريحة الصحيحة لا يمكن لمسلم تجاوزها والاستهانة بها، فكلمة «تصوير» في اللغة من الألفاظ المشتركة التي تدل على عدد من المعاني، فيطلق التصوير ويراد به النحت، ويطلق التصوير ويراد به الرسم، وجاءت من هنا المشكلة الأصولية، فمن قال إن حبس الظل عبر الآلات اللاقطة يعتبر تصويرا كالرسم والنحت أفتى بالتحريم، ومن رأى أن حبس الظل لا يدخل في مسمى التصوير قال بالإباحة.

فمن حرم التصوير سابقا ولاحقا يستند إلى دليل قوي لا يجوز الاستهانة به، كما لا يجوز لمز أصحابه، ولولا أدلة أخرى لها اعتبارها من النص والقياس تؤيد قول من يبيحون التصوير الفوتوجرافي لكان الذهاب إلى إباحته خطأ عظيما، والتشريع عندنا يعتمد على النصوص وليس على أهواء النفوس أو المصالح المجردة كما زعم صاحب التدوينة.

وأما تحريم مشاهدة القنوات، فأصل الخلاف الذي وقع فيها في بداية الأمر هو الخلاف نفسه الذي وقع في التصوير، فمن أجرى الصور المتحركة مجرى الصور الثابتة وفهم كونها داخلة في النص الصحيح المُحَرِّم، ومعه على هذا نص صحيح وقياس محتمل، ومن رأى أنها لا تدخل في التصوير الثابت تحريمه بالنص، وقَصَر النص على النحت ورسم ذوات الأرواح أجاز المشاركة في التلفزيون واقتناءه ومشاهدته، وهؤلاء هم الأكثر بالنظر إلى أصل الجهاز، وبقيت عندهم مسألة ما يعرض في هذه الأجهزة هل الغالب عليه الحرمة أم الحل؟

فمن رأى أن الغالب هو المحرمات وأن دخولها إلى المنازل فيه تطبيع للمنكر وإفساد للنشء فإنه يرى تحريمها ولا يزال كذلك، ومن رأى العكس قال بالعكس.

وأما ظهور أهل العلم ومن يقدمون للناس الخير في القنوات وعلى الشاشات فلا أعلم أحدا من أهل العلم حرمه، بل كانوا يدعون إليه.

هذه الأمثلة الأربعة اقتصرت عليها كنماذج نستفيد منها: أن الأمثلة التي تُذكر اليوم وينتقص من خلالها أهل العلم بكونهم يحرمون الشيء ثم يبيحونه، منها ما هو افتراء كالقول بتحريم العلماء لتعليم البنات هكذا وبهذا الإطلاق، ومنه ما كان تحريمه لِعِلَّة صحيحة فمتى زالت زال التحريم، كتحريم قيادة المرأة للسيارة، أو لعلة متوهمة فإذا تحقق عدمها انعدم الحكم المنوط بها كتحريم القهوة عند من حرمها، ومنها ما كان تحريمه لِعِلَّة وأدلة صحيحة باقية وجاء الإذن به مراعاة لعموم الابتلاء به كبعض ألبسة الكفار، ومنه ما حرمه بعض من ليسوا من أهل العلم، إما من صغار طلبة العلم، أو من المتطرفين الغلاة من الجهلة، كتحريم جهاز البرقية الذي لم يقل به عالم، لاسيما من علماء المدرسة السلفية.

وهنا يناسب أن أنوه بعلماء المدرسة السلفية في الجزيرة العربية، فمع أنهم كانوا أبعد الناس عن مصادر الحضارة الحديثة وأقلهم احتكاكا بأهلها، إلا أنهم كانوا أكثر العلماء تفهما لها وإباحة للنافع من مخترعاتها، وقد أشاد بذلك شكيب أرسلان في كتابه لماذا يتأخر المسلمون ولماذا يتقدم غيرهم، فقال: «على أن الذين يفهمون الإسلام حقّ الفهم يرحبون بكلّ جديد لا يعارض العقيدة، ولا تُخشى منه مفسدة. ولا أظنّ شيئا يُفيد المجتمع الإسلامي يكون مخالفا للدين المبني على إسعاد العباد».

أفلا ترى علماء نجد وهم أبعد المسلمين عن الإفرنج والتفرنج، وأنآهم عن مراكز الاختراعات العصرية كيف كان جوابهم عندما استفتاهم الملك عبدالعزيز بن سعود في قضية اللاسلكي والتلفون والسيارة الكهربائية؟ أجابوه أنهم محدثات نافعة مفيدة، وأنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله لا بالمنطوق ولا بالمفهوم ما يمنعها.

أفليس الأدنى لمصلحة الأمة أن تقدر الدولة على معرفة أي حادث يحدث بمجرد وقوعه حتى تتلافى أمره؟ أفليس الأنفع للمسلمين أن يتمكن الحاج ببضع ساعات من اجتياز المسافات التي كانت تأخذ أياما وليالي؟ لقد سألت الشيخَ محمد بن علي بن تركي -من العلماء النجديين الذين بمكة- عن رأيه في التلفون واللاسلكي، فقال لي: هذه مسألة مفروغ منها، وأمر جوازها شرعا هو من الواضح بحيث لا يستحق الأخذ والرد.