إن حضور المصطلحات المستوردة من أمثال مصطلح العلمانية والليبرالية والنسوية في خطاب المعنيين بقضايا الإصلاح في العالم العربي من القضايا المؤثرة في سير الخطابات العربية، وكذلك هي من القضايا التي شاع اختلاف موقف المفكرين حولها، فمنهم من يرى أنها ضرورة لا ضير في استخدامها، وهناك من يرى أنها دلالة على التورط الكامل في التبعية للثقافات الأخرى، وهناك من يرى أن المشكلات المترتبة على استعمال المصطلحات المستوردة كافية لصرف النظر عنها كالجابري رحمه الله والدكتور الغذامي، الذي يرى أن كلفة الدفاع عن هذه المصطلحات قد تفوق أحياناً كلفة الدفاع عن الفكرة ذاتها، وهذا الرأي هو الأسلم.

إذ إن استخدام المصطلحات في الغالب لا يجعل حكم الناس على الفكرة عادلاً، بل سيكون موقفهم غالباً مثقلاً بالتجارب التاريخية التي مر بها هذا المصطلح، كما سيكون عامل التطرف للهوية المحلية صارفاً عن مناقشة الفكرة لا بسبب فسادها بل بسبب موقفهم المتطرف ضد كل ما هو غير محلي، وهذا يمنح المعارض للفكرة الذي رفضها لدواع غير موضوعية فرصة استغلال التجربة التاريخية لهذه المصطلحات لصرف الناس وتشويشهم عنها؛ فغالبية المعنيين بمناقشة هذه القضايا تكون لهم أهداف أيديولوجية أو غيرها، وغالباً لن يفوتوا فرصة استغلال كل ما يمكن استغلاله لدحض الأفكار التي تعارض أيديولوجياتهم، وبالمقابل فهي تدفع أصحاب الأيديولوجيات المقابلة المنبهرين ببعض المكتسبات التي حصلت عليها المجتمعات التي تم استيراد هذه المصطلحات منها، لتبني هذه الأفكار والانخراط مع التيارات التي تستخدمها دون وعي حقيقي بماهية الفكرة وبدون تجريدها عما يلتصق بها من ظروف وتجارب تاريخية ودعاية عالمية، فالحقيقة أن الصورة التي يوجد عليها مجتمع ما اليوم هي نتيجة لمجموعة من الظروف والعوامل لا شك تعد الأفكار جزءا من هذه العوامل، لكن لا يمكننا بسهولة تحديد فكرة ما ونسب جميع نتائج الواقع في هذه المجتمعات لها، وهذا العامل أحدث لبساً في كثير من المصطلحات.

ومن مشكلات هذه المصطلحات أيضاً أنها تسبب الخلط في مقاصد طارح الفكرة، فغالباً ما تكون هذه المصطلحات شائكة يصعب ضبط معانيها، وتكون مقاصد متبنيها ليست متماثلة، فمثلاً لدينا مصطلح النسوية الذي يتبناه البعض بوصفه مجرد المطالبة بحقوق المرأة، لكن المتلقي لحديثه سيجده يحمّله من المعاني ما لا يحمّله هو شخصياً، وقد يجد نفسه متهماً بعداء الإسلام أو الثقافة المحلية وغيرها من التهم التي لم يسوغها إلا تبنيه للمصطلح المثقل بتجارب تاريخية..

إن كل ما سبق سيجعل طارح الفكرة يستنفد كلفة عالية لتبيئة المصطلح وحده ومصالحته على الجماهير العربية بدلاً من تقديم الفكرة ذاتها، وإنه مما لا شك فيه أن هذه العوامل المذكورة في المقال تؤثر بشكل سلبي على عملية الإصلاح الفكري، فالإصلاح يحتاج لنفوس تتقبل بسلاسة التحول للأنفع والأصح، بغض النظر عن كون هذا الأصلح محلياً أو مستورداً، لذلك علينا التركيز على مشكلاتنا المجتمعية والانتفاع من التجارب الإنسانية لحلها، لكن ليس في هذا ضرورة لاستيراد المصطلحات التي لا تنتج أي منفعة توازي خسائرها.


مشاعل الغديفي