منذ تفجّر قضية اختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول التركية، يلحظ الجميع حالة السعار التي اعترت قناة الجزيرة القطرية، التي كادت أن توقف كل برامجها وتغطياتها الإخبارية لافتعال حالة من الترصد الإعلامي الفاضح، والفبركة المكشوفة، والتحريض ضد المملكة، وإصدار أحكام قطعية لا تستند إلى أي أدلة حتى اللحظة، بل وذهبت أبعد من ذلك حينما زعمت مقتل الصحفي وتقطيع جثته بمنشار، إلى غير ذلك من الخطرفات التي لا يمكن أن تقنع كل من لديه عقل أو ألقى السمع وهو شهيد.

فالسعودية لم تُعرف طوال تاريخها باللجوء إلى أساليب العصابات وطرق الإرهابيين، بل ظلت دولة تتبع القانون في كل إجراءاتها ضد مواطنيها والمقيمين على أراضيها، وكل من يثبت أنه تجاوز الأنظمة أو ارتكب ما يستوجب معاقبته، يتم استدعاؤه بالطرق القانونية المتبعة، وتقديمه إلى محاكمة علنية، وتمكينه من الدفاع عن نفسه.

حتى من ثبت تورطهم في قضايا الإرهاب، وارتكبوا جرائم تصنف ضمن جرائم أمن الدولة، وتلطخت أيديهم بدماء الأبرياء في جرائم التفجير والاغتيالات، التي شهدتها بلادنا خلال السنوات الماضية، لم يتم التعامل معهم بهذه الطريقة، بل أتيحت لهم الفرصة الكاملة للدفاع عن أنفسهم، وأقيمت لهم محاكمات علنية عادلة، أتيح لوسائل الإعلام المحلية والعالمية تغطيتها ونشر أخبارها. ليس هذا فحسب، بل إن المملكة -وحرصا منها على مستقبل أبنائها- كفلت لأولئك المدانين الفرصة للعودة إلى جادة الطريق، وفتح المجتمع أحضانه لاحتوائهم مرة أخرى عبر مراكز المناصحة، إذ تولى ثلة من العلماء والأطباء وعلماء النفس مراجعتهم ومحاورتهم، وتفنيد الشبهات التي استندوا إليها.

فمن يتبع هذا الأسلوب الراقي المتحضر في التعامل مع إرهابيين وخارجين على الدولة، لا يمكن أن يلجأ إلى أسلوب الاغتيالات والاختطاف، وغير ذلك من الأساليب الوحشية مع صحفي، لمجرد الاختلاف معه في بعض الآراء، لا سيما أن خاشقجي نفسه نفى عن نفسه صفة المعارضة للحكومة أو النظام.

لم يكن موقف القناة القطرية مفاجئا، بل كان عاديا، والمفاجئ هو أن تتخذ عكس الموقف الذي اتخذته، لأنها ظلت تتشدق بالبحث عن الحقيقة، بينما لا تهتم سوى بترديد الأكاذيب والفبركة والتلفيق، وتزعم المهنية وهي أبعد ما تكون عنها، وترفع شعار الرأي الآخر ولا تسمح بحرية الحديث إلا لمن يدورون في فلكها ويكررون مزاعمها، لذلك استمرت في ترديد تناقضاتها ومخالفة المنطق والعقل، والأدلة على ذلك كثيرة، ومنها الزعم بأن القنصلية السعودية في إسطنبول منحت طاقم الحراسة الخارجية إجازة مفاجئة يوم اختفاء خاشقجي، وأبسط متابع يدرك أن طاقم الحراسة الخارجية لأي سفارة أو قنصلية أجنبية في أي دولة من دول العالم يتبع الدولة المضيفة، إداريا وماليا، لذلك لا تملك الممثليات الدبلوماسية حق منحه الإجازة. كذلك زعمت الجزيرة أن إدارة القنصلية قامت بإخراج جميع المراجعين فور دخول خاشقجي، وهو ما لم تتمكن من تأكيده، ونفاه كثير من المراجعين الذين أكدوا أنهم أكملوا إجراءاتهم بصورة طبيعية، ولم يلحظوا وجود أي تغير في المعاملة طوال فترة وجودهم في القنصلية.

أما صور الـ15 شخصا، التي بثتها على شاشتها وزعمت أنهم فريق أمني جاء على متن طائرتين من خارج تركيا، فقد كانت فضيحة بمعنى الكلمة، إذ تأكد أن معظمهم عبارة عن سياح كانوا يقضون عطلاتهم في تركيا، بل إن بعضهم ظهر بصحبة زوجاتهم وأبنائهم.

كل ذلك -كما أسلفت- لم يكن مفاجئا، فالشيء من معدنه لا يُستغرب كما يقولون في الأمثال، لكن الغريب هو أن هناك منظمات قانونية عريقة، مثل «هيومن رايتس ووتش»، و«منظمة العفو الدولية»، انساقت وراء ادعاءات الجزيرة ومن حذا حذوها من وسائل الإعلام التركية الموالية لجماعة الإخوان، في حين ظلت المؤسسات الإعلامية العريقة في تركيا بعيدا عن ذلك، وتمسكت بمهنيتها ورصانتها، فتلك المنظمات استبقت الأحداث حينما بادرت بإصدار بيانات متعجلة، أصدرت فيها أحكاما متسرعة، دون تبصُّر أو رويّة، بعد أن انطلت عليها الأكاذيب، وتناست أن أبسط المبادئ القانونية تقتضي التريث حتى صدور موقف رسمي من الدولة، التي ما زالت التحقيقات تجري فيها حتى الآن، ولم يصدر أي بيان رسمي عن أي جهة حكومية تركية، بل إن الرئيس رجب إردوغان نفسه امتنع عن مجرد التعليق على ما يجري «لأن كل ما يثار هو مجرد فرضيات» حسب تأكيده، كذلك نفت الرئاسة التركية أن تكون قد أدلت بأي تصريح توجه فيه اتهاما لأحد.

هذا التهافت الغريب يؤكد حقيقة واحدة، هي أن بعض تلك المنظمات تناست الدور الذي أنشئت من أجله، وباتت مجرد أدوات ضغط في أيدي دول أخرى، تستغلها لممارسة الكيد السياسي، وتحقيق أهداف أبعد ما تكون عن تحقيق العدالة وصون حقوق الإنسان وكرامته، كما يثبت ذلك الاستهداف وجود حالة من الترصُّد ضد بلادنا، ورغبة في النيل منها، لأسباب وإن كانت متفرقة وكثيرة، إلا أنها تلتقي جميعا في نقطة الحسد وسوء النوايا. لكن الأزمة ستنجلي، وسيتأكد العالم أن أرض الحرمين التي انطلق منها نور الرسالة الإسلامية، وارتفع فيها لواء العدل والحق والإنصاف، أبعد ما تكون عن تلك الأساليب الهمجية، ولا يمكن أن تسمح لنفسها بالغوص في هذا المستنقع، وأن مسيرة الإصلاح التي يقودها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لن تتوقف، وأن المكاسب التي بدأت بلادنا تجنيها ستتواصل، وإن تزايد عواء الكارهين.

لكني لا أتصور ولا أتمنى أن نتوقف عن ملاحقة كل من أساء إلينا، أو صوّب إلينا سهام التهم جزافا، وستكون ساحات العدالة ميدانا للاقتصاص من أصحاب الغرض والمرض.