في عام 1957 نشر أحد الصحفيين المهتمين بالشؤون الداخلية لبريطانيا مقالا في دوريته المغمورة ينتقد فيه الملكة بسبب بُعد خطاباتها الموجهة للشعب عن حالهم، ويطالب فيها بحماية الملكية من المقربين من الملكة.

وعلى الرغم من أن خطابه هذا أغضب مجلس اللوردات وبعض قيادات دول الكومنولث وأدّى تصريحه -برأيه- لتكالب بعض الصحف الكبرى حينها عليه، ومنعه من الظهور الإعلامي في اللقاءات، بل تعرض على إثر مقاله للضرب من قبل أحد الجنود القدامى، والذي وصفه بالخائن وبرر ضربه له بأنه يقوم بدوره كمواطن بريطاني شريف يحب الملكة! مع كل هذا التجييش ضده إلا أن الملكة قررت أن تلتقي به وتسمع منه، وهذا ما حدث حسب رواية الصحفي لاحقا، مع أن القصر لم يصادق أو ينفي هذا اللقاء.

لم تترك الملكة لقاء مثل هذا يمر دون أن تعاتبه على عباراته القاسية في المقال، فوضح لها أنه لم يقل ما قاله إلا حبًّا في بلده وتقديرا للملكة وما تمثله له ولأمثاله من الجيل البريطاني، ورغبة في حماية التاج من المنتفعين الذين يزيدون الهوّة بين القصر والمواطنين، كما أخبرها بأنه انتقد اختياراتها لأنها الوحيدة القادرة على تغييرها، ثم عرض عليها خطته التي تجمع بين الإعلام والمهارات الاجتماعية والمصداقية في التعامل مع الشعب لاستعادة شعبيتها التي وصلت إلى أقل مستوياتها بعد الحرب العالمية الثانية.

تضمنت خطة الصحفي خمسة أمور يجب على الملكة التخلي عنها، وخمسة أخرى يجب البدء في تطبيقها وتعزيزها.

خرج الصحفي من اللقاء الملكي ليدخل التاريخ، فقد قررت الملكة أن تنفذ بعض الإصلاحات التي عرضها عليها، على الرغم من اعتراض مستشاريها وتلويحهم بورقة هيبة الملك وضرورة عدم السماح للعامة والإعلاميين خصوصا بتغيير التقاليد التي يتبناها التاج البريطاني منذ الأزل.

الحقيقة أن هذه الإصلاحات التي بدأت بإعلامي صريح ومخلص وغاضب إلى حدٍّ ما أسهمت في استعادة الملكة لقلوب الشعب، وبنت جسرًا من الثقة الصادقة بين الملكة والجيل الجديد من المواطنين الذين عاصروا عاصفة الحرب العالمية الثانية، وابتلعوا خسارة قناة السويس، وترنحوا كثيرا من الأحداث التي غيرت خارطة الفكر البريطاني وبنته من جديد.

توفي John Grigg والمعروف تاريخيا بِـLord Altrincham في عام 2001، ويذكره التاريخ البريطاني كمنقذ للملكة من لغة مستشاريها المتعجرفة الذين كانوا يقومون بما يعتقدون أنه الأفضل، لأنهم ربما لقربهم الشديد من الملكة فقدوا القدرة على رؤية الشعب، مما جعل لسان حال أليزابيث ومن حولها وقتها (اللهم احمنا من أصدقائنا، أمّا أعداؤنا فنحن سنتكفل بهم)، وأتذكر هنا أيضا ما قاله الروائي محمد حسن علوان (اللهم لا تجعل ضميري قربانا لرزقي أبدا).

أظن أن على كل كاتب وطني حقيقي أن يعي هذا الدرس التاريخي في قدرة الإعلامي الناصح على صناعة التغيير بدون بطولات مزيفة، الوطن أغلى، وعلى الحروف المخلصة أن تصمد مهما حاول المزيِّفون والمنتفعون التقليل من قوة الرأي والتلويح بقضية التخوين، خصوصا مع دعوات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، المتكررة لعموم المواطنين بالتواصل مع الديوان الملكي مباشرة لأي ملاحظة أو نصيحة أو طلب، وكلنا يعرف قصصا عن المقولة الشهيرة (والله ما يردني إلا سلمان)، وهي حقيقة يعرفها أهل الرياض جيدا.

حفظ الله وطننا الغالي وقادته، وكفاه شر الحاقدين والمحرضين والمغرضين والأغبياء أيضا.