عادت ندى من مدرستها في المرة الأولى لتجد والدتها قد غادرت أسوار المنزل بعد أن نشبت الخلافات بينها وبين والدها، إلى أن انتهى الأمر بالانفصال النهائي، بلعت الطفلة غصتها وخبأت دموعها بين كتبها ودفاترها، وراحت تكتب بأصابعها الصغيرة المرتعشة قصة حياتها الجديدة في زاوية حجرتها الباردة، لم تجد ندى عزاء في أمها الغائبة عن عينيها الذابلتين، فانطوت على كتبها تحكي لها عن قسوة الشتاء في غياب حضن والدتها الدافئ، وترسم على حين غرة من معلماتها أشجار طفولتها التي عرّاها خريف الوداع المرير، تألقت ندى في المدرسة وسكبت أحزانها على السطور، وجمعت ذكرياتها المبعثرة ببنانها على الورق الأبيض لتكون دائما في المقدمة، وتعود كل يوم محملة بإنجازاتها المدرسية وشهادات التفوق والامتياز، في الصف الثالث متوسط وفي يوم النجاح الكبير واستلام نتائج الفصل الأول صدحت مكبرات الصوت في المدرسة باسم ندى كما هي عادتها، وتعود لمنزلها حاملة شهادتها ودرجاتها العالية، تنتظر أن يحتفل أحدهم معها عوضا عن أمها، لكن الاحتفال كان صاخبا هذه المرة، فقد صدمها والدها بقراره الذي اتخذه بالتشاور مع الزوجة الجديدة ويقضي بحرمان ندى من المدرسة، لتتفرغ لأعمال المنزل، لا سيما أن شقيقتها الكبرى قد تزوجت، وحان دورها في استلام زمام العمل، وقع الخبر على ندى وقوع الصاعقة الحارقة على شجرة الورد الندية، فاحترقت أحلامها وفاح شياط روحها من بين أضلاعها المنتحبة، وراحت كعصفور جريح تطرق كل نافذة تبحث عن بصيص من نور، أو وميض من أمل، حتى هيأ الله لها من أقنع والدها بحل وسط، يضمن قيامها بأعمال المنزل كاملة دون التضحية بدراستها، وهو الدراسة عن طريق نظام المنازل أو الانتساب، وراحت ندى تحارب وحيدة على جبهتين، وكرست جهدها كاملا للدفاع عن حلمها الأثير، وأفنت جسدها النحيل في القيام بأعمال المنزل الشاقة، ثم قراءة كتبها الصماء دون مساعدة من أحد، لم يكن الأمر سهلا على ندى أن تتحول إلى معلمة تشرح وطالبة تفهم في نفس الوقت، ولطالما تاقت سبابتها إلى الارتفاع في فضاء الصف كما اعتادت دائما مشارِكة ومتفاعلة ومتداخلة، وكم حنٌ سمعها لسماع صوت التصفيق وهو يدوي من كفوف زميلاتها بعد إجابة مميزة أو مداخلة قيمة منها، وبقي صوت معلمتها كالجرس يوقظ حلمها الأثير كلما غفا أو انحنى غصنه وانثنى، وهي تردد في كل حصة: ممتازة يا ندى، حيوا ندى، إجابتك مميزة يا ندى، لذلك استمرت ندى في نجاحها، وإن كان نجاحا شاقا، ومبتورا بالنسبة لها، لكنه خير من البقاء بلا تعليم على كل حال، ولم تتردد ندى لحظة في قبول أول طارق لبابها، هربا من واقعها المرير، وبحثا عن مستقبل رحيب، يتسع لأحلامها المجنحة، ولم تكتف ندى بإتمام دراستها الجامعية وهي في بيت الزوجية، بل أخذت بيد زوجها أيضا ليكمل دراسته التي تخلى عنها لصالح العمل.

امتدت أحلامها لتخطف الماجستير وسط زحام الأمومة ومشاغل الحياة، ثم تطاولت لتقطف الدكتوراه بكل عزم واقتدار، لكن حلمها ظل ناقصا لم يكتمل، حيث لم تعثر ندى حتى الآن على عمل يتوج رحلة كفاحها العامرة بجلال العلم، وبهاء العزم، وأنوار الكفاح، تقول ندى في أسى:

عندما أحث أولادي على مواصلة دراستهم وطلب العلم حتى النهاية يؤلمني ردهم: وماذا استفدتِ يا أمي من علمك وشهاداتك التي تملأ أركان البيت!؟

ترى من يتوج حلم ندى ويمنحها بطاقة العبور إلى آفاق العطاء، ومن يمنحها فرصة الظهور في سماء الوطن لتنثر إبداعها وحصاد علمها وثمار عقلها!؟

رحلة كفاح ندى لم تنتهِ بعد، ما زالت صابرة في انتظار الفرج، وهي جديرة بخدمة وطنها، ووطنها جدير بالاستفادة مما تملكه من علم دفاق، وتجربة إنسانية ثرية، لفتاة سعودية تتوقد حماسا وتميزا ونجاحا!؟