يشهد الوطن منذ سنوات استقطابا مُوجها للاستثمارات الأجنبية والوطنية، وذلك بهدف الاستفادة من مواردنا الطبيعية التي يزخر بها الوطن بين جنباته، وذلك يشمل جميع ما حبانا الله من مقدرات وثروات مختلفة، ما بين موارد اقتصادية معدنية وزراعية مختلفة، وبين موارد طبيعية جغرافية متنوعة وثرية، تتوزع بين أراضينا المتباينة في الشكل والتضاريس والمناخ، وبين موارد تاريخية تسجل حقبات مهمة من تاريخ البشرية الحضاري والديني، إذ تتجسد معالمها المختلفة لتوثق أحداثا ومعارك وقصصا تسطر مراحل مهمة من تاريخ البشرية جمعاء، والتي كانت أرض الجزيرة العربية مسرحا لأحداثها.

ومع انطلاق رؤيتنا الإستراتيجية 2030 التي ارتكزت في أهدافها، على إستراتيجية محورية تشمل استثمار جميع مقدراتنا، لبلورتها إلى منتجات وإنجازات شاملة لمواردنا الوطنية البشرية والمادية، وعليها بنيت الخطط ووُضعت السياسات في جميع القطاعات التنموية المعنية، لتعمل جميعها كمنظومة متكاملة على تحقيق رؤيتنا الإستراتيجية، كمنتج وطني ثري بمحتواه، متنوع في عطائه، ومتميز وعالٍ في جودته، وبما يمكننا من تحقيق استثمار شامل ومتنوع لمواردنا، لبناء قاعدة اقتصادية قوية متنوعة في مضمونها، ولتُترجم بإنجازاتها ذلك المرتكز المحوري الإستراتيجي لاستثمار مقدراتنا الوطنية، كرصيد تنموي وكبنية تحتية ننطلق منها لبناء مستقبل جديد يؤسس لعصر حضاري مختلف في طبيعة مكوناته، ونوعية محتواه الاستثماري، وآلية إداراته المؤسسية، والذي سنسجل به بعد التوفيق من الله، مقعدا متقدما في سجل الإنتاج العالمي، وسنسهم فعليا في تنوع صادراتنا الاقتصادية، وبه يمكننا تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة، تتعدى حدود الوطن ليشمل خيرها سائر الأوطان والشعوب، وبذلك تتصدر الدول وتتزعم الأوطان مكانتها الحضارية، لتنتزع لكيانها منبرا يستحقها وتستحقه.

ولعل من أهم المرتكزات الرئيسة لتأمين نجاح الاستثمار الموجه البنّاء، هو التهيئة والتمكين لاستيعابه، والذي يكون خلال بناء البنية التحتية الوطنية الملائمة، للاستفادة من تلك الاستثمارات فعليا وليس شكليا، بما يعني أن ينعكس مردود تلك الاستثمارات على تحقيق نقلة تنموية نوعية، وإنجاز ملموس لواقعنا الاقتصادي والاجتماعي الوطني، وألا يكون المستثمر الأجنبي هو المستفيد فقط من تلك السياسات والمشروعات المطروحة، وذلك يتطلب وجود عدد من المرتكزات البنيوية الأساسية التي تخدم مشروعنا الوطني، وبما يلائم ظروفه وموارده ومقدراته المختلفة وتطلعاته المستقبلية، علاوة على معالجة تحدياته، والتي يمكن إيجازها في الآتي:

1- التركيز على الاستثمار في الموارد البشرية بداية، ويكون ذلك بزيادة الإنفاق العام على مخصصات التعليم والصحة والإسكان والبحث العلمي والتطوير، والتقدم التكنولوجي، بما يكفل تكيفهم واستفادتهم من مختلف المشاريع الاستثمارية لنقل التكنولوجيا.

2- الأخذ بالسياسات النقدية والمالية الكفيلة بكبح التضخم وارتفاع مستوى الأسعار، بما ينعكس أثره إيجابا على نمو اقتصادي وازدهار اجتماعي يظهر في نمو متنوع للصادرات، وتحسن ملحوظ في مستوى المعيشة، والذي يقضي بالمحافظة على مستوى أجور ووظائف لائقة بالمواطنين.

3- وضع السياسات التجارية والصناعية التي تخدم التوسع في الصادرات الصناعية المختلفة، وتحفز على التوجه نحو الاستثمار في الموارد المختلفة بالصناعات المتنوعة، ودعم ذلك التوجه فنيا «بالتدريب» وماليا «بالقروض»، ومؤسسيا «بالتشريعات والقوانين».

4- مراجعة سياسات سوق العمل وتحديثها وضبطها بما يسهم في فرض رفع نسبة التوظيف للمواطنين في جميع القطاعات، وإلزام المنشآت بتوفير التدريب المهني المناسب للمواطن على رأس العمل، بحيث ينعكس مردود الاستثمار، خاصة «الأجنبي»، على ارتفاع نسبة التوظيف والتدريب للمواطنين معا، وبما يسهم في القضاء على البطالة وتأهيل المواطن وتدريبه مهنيا من جهة، وتوطين التكنولوجيا ونقلها وتطويرها من جهة أخرى.

ومما تجدر الإشارة إليه، أن تلك المرتكزات تمثل أهم دواعي الاستثمار الأجنبي، والتي هي في حد ذاتها أهم مبررات استقطابه للاستثمار في الوطن، لأن التوجه نحو تشجيع الاستثمار الأجنبي واستقطابه في الدول النامية التي شهدت تقدما كبيرا في منجزاتها التنموية، والذي أسهم بنقلها من مصاف الدول النامية إلى المتقدمة تنمويا، لم يكن له أن يتحقق لولا أن تلك الدول بدأت بإصلاح وتطوير بيتها الداخلي مؤسسيا وبشريا، وحرصت على توجيه جهودها ونفقاتها نحو خدمة تطلعاتها التنموية وإستراتيجياتها المستقبلية، وبذلك تحولت تلك الدول من دول فقيرة يسودها الجهل والمرض والجوع، لعجزها في جميع مواردها -حتى الغذاء تستورده-، إلى دول تنافس الدول المتقدمة في صادراتها التي تكتسح سوق التجارة العالمي، بجودة صناعاتها ومنافسة أسعارها، لطبيعة تكوينها السكاني والاجتماعي الذي مكّنها من خفض تكلفة الإنتاج، والذي دفع

بها للقفز بمراحل تنموية قياسا إلى بداياتها، وكان ذلك مرهونا بتلك الجهود المدروسة، والتخطيط الموجه، والسياسات المتكاملة، والإدارة الشاملة لمشروعها الوطني الملائم لظروفها ومواردها، وذلك علاوة على مراقبة النزاهة في الأداء العام، وذلك جميعه في إطار خطة إستراتيجية تنموية متكاملة استهدفت ذلك الإنجاز الفعلي، الذي توج تلك الجهود البناءة والاستثمار الموجه لكافة مقدراتها ومواردها المحدودة.

ومع انطلاق العديد من المشاريع الاستثمارية المختلفة، والبرامج الاقتصادية البناءة لتحقيق رؤيتنا الإستراتيجية وتطلعاتنا الوطنية المتفائلة، نأمل أن تكون جميع المرتكزات الإستراتيجية المنظمة للاستثمار والضابطة له، قد أخذت في الاعتبار، لتوجيه مساره الإنتاجي والتنموي بما يخدم تحقيق مستهدفاتنا الوطنية، وبما يسهم في معالجة تحدياتنا وتذليل إشكالاتنا، ببناء الخطط التنفيذية والأخذ بالسياسات والإجراءات المواكبة لحجم مشروعنا الوطني بمحتواه وبمستهدفاته التنموية الطموحة من تلك الاستثمارات.