كما كان متوقعا، انقسم الكونجرس إلى معسكري قوى: اليمين المحافظ، وقوى اليسار الليبرالي.

فبعد أشهر من التنافس الانتخابي على مقاعد مجلس النواب والشيوخ، أُسدل الستار فجر الأربعاء على الانتخابات النصفية التي شهدت عودة الحزب الديمقراطي إلى غالبية مجلس النواب بأعضائه الـ435، وحفاظ الحزب الجمهوري على غالبية مجلس الشيوخ.

أهمية الديمقراطيين كقوة سياسية في أميركا لم تغب خلال العامين الماضين، كما يتصور البعض، فقد كانوا -ومنذ أن تقلد ترمب مقاليد حكم البيت الأبيض- يعملون بشكل لا هوادة فيه على تحويل فترة رئاسته إلى جحيم حقيقي، عبر عدد من الملفات والمنغصات التي حوّلت ترمب من رجل أعمال براجماتي إلى رئيس عدائي لا يقبل أي صوت معارض، الأمر الذي حوّل حزبه -كما يرى كثيرون- إلى آلة دعائية للرئيس، بدلا من القيام بدوره رقيبا ومرشدا له، الشيء الذي قد يكون قد أدى إلى خسارة مجلس النواب، إذ لم يقم أعضاء المجلس الجمهوريين بالدور المأمول منهم من ناخبيهم، في إرشاد الرئيس وضبطه ومساعدته على المضي بأميركا إلى الأمام.

إلا أن اليوم -ومع انقسام المجلس التشريعي- الأميركي بين غالبية لحزبين متنافسين، فإن الحزب الديمقراطي سيصبح قادرا على الضرر وإعاقة الرئيس بشكل عملي، مع يقيني بأن المنغصات الجانبية الإعلامية منها والسياسية والقضائية، ستستمر للدفع بالرئيس إما لارتكاب خطأ فادح، أو بهدف كشف سر خطير، ففوز الجناح الليبرالي في السياسة الأميركية سيخوله شنّ حملة رقابية شرسة على الرئيس، وهو الدور الذي لم يقم به حزب الرئيس المحافظ كما قلنا، وهذا بطبيعة الحال سيكون له تأثير كبير على قدرة الرئيس على التحرك في كثير من الملفات الداخلية والخارجية المهمة، والتي تتصف بها سياسته المعلنة.

فوز الديمقراطيين بمجلس النواب بعد 8 سنوات من الاكتفاء بالقيام بدور المعارضة الصوتية، سيمنحهم أولا على المستوى الداخلي الفرصة على عرقلة كل الجهود التي يقوم بها الرئيس في بناء جدار حدودي مع المكسيك، كجزء من خطابه الانعزالي والمعادي للهجرة والمتوجس أمنيا.

فالديمقراطيون من دعاة الهجرة المنظمة باعتبار أميركا دولة بنيت على المهاجرين، ومن دعاة الاندماج مع الأقليات، ولا أوضح من ذلك من فوز عدد كبير من مرشحيهم في الانتخابات النصفية من الأقليات، مثل المرأة المسلمة والأخرى العربية والثالثة من سكان أميركا الأصليين «الهنود الحمر»، إضافة إلى مرشحين مثليين وغيرهم.

إلى جانب ذلك، سيعمل الديمقراطيون على النظر بشكل جاد إلى التعاملات والمصالح التجارية للرئيس وعائلته، مع عدد من الدول الغنية، بما فيها بعض الدول العربية، وهو أمر غير مستغرب، إذا ما علمنا أن الحزب الديمقراطي كان دائما وما زال يتوجس من دولنا العربية، لاعتبارات متعددة لا يسمح المجال التوسع فيه، إلا بالقول إنها تنطلق من موقف الفكر الليبرالي المعادي بطبعه من الأنظمة السياسية الملكية، أو ذات النزعات القومية.

من أكثر المسائل التي كانت تغيب وتعود كلما دعت إليها الحاجة السياسية، هي فتح تحقيق في ملف الرئيس الضريبي، ودفعه لكشف ما إذا كان قد سدد التزاماته الضريبية وفق القانون، وكما يتهمه كثيرون بالتهرب والتلاعب بالأرقام، إلى جانب المضي بشكل أكثر شراسة في دفع المحقق الخاص «روبرت مولر» في تحقيقه بقضية التآمر مع روسيا، والتي وحتى تاريخه استطاع أن تثبت فيه تورط أشخاص مقربين من الرئيس، بما فيهم أشخاص انقلبوا في مواقفهم على الرئيس، وأصبحوا يشكلون خطرا حقيقيا عليه، فالديمقراطيون في هذا السياق سيعملون -بشكل فعلي- على تحويل هذا التحقيق إلى ذريعة تدفع الرئيس نحو الهاوية التي يرغبونها.

على المستوى الدولي، ليس خافيا أن الحزب الديمقراطي -ومنذ فترة الرئيس أوباما- لديه تحفظات ومواقف مخالفة لموقف المملكة من مسألة المواجهة مع إيران، مع تغليب فكرة التوازن في القوى في المنطقة بدل المواجهة، غافلين مكون الإرهاب الذي تتزعمه إيران، وعليه فهي ستعمل خلال جلسات استماع في الكونجرس على تعطيل معظم الجهود الأميركية التي تدعم موقف المملكة في حربها ضد الحوثيين، إما خلال مشاريع قوانين تدفع نحو منع بيع الأسلحة، كما حاولوا في الماضي وفشلوا، أو خلال إجبار الإدارة على التوقف عن الدعم اللوجستي لقوات التحالف العربي، وهو أمر قد لا يكتب له النجاح إذا ما واجهه موقف حازم ومتماسك من الحزب الجمهوري المساند للرئيس ومواقفه من قراراته المتعلقة بالمنطقة العربية ومواجهة إيران وأجندتها التخريبية والتوسعية في المنطقة والعالم، فحزب الأقلية المحافظ في مجلس النواب ما زال فاعلا في لجانه المختلفة، بفعل عدد أعضائه وأقدميتهم وامتدادهم السياسي، وقدرتهم عبر التفاوض واللعب السياسي على منع الغالبية من التفرد بالقرار.

في السياق ذاته، ربما يعاد النظر في الدور الأميركي في كل من ليبيا وبشكل أقل في سورية، إضافة إلى خطاب ومواقف أكثر تعاطفا مع الموقف الفلسطيني في عملية السلام، بعد عامين من الانحياز شبه المطلق إلى الجانب الإسرائيلي كما يرى المراقبون، وهو موقف يعزوه كثيرون للدور الذي لعبه مستشار الرئيس وزوج ابنته «جاريد كوشنر»، المكلف منذ بداية إدارة الرئيس كمنسق لعملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، إلى جانب ذلك سيعمل الديمقراطيون على إعادة النظر في المساعدات المالية التي تقدمها الحكومة الأميركية لعدد من الدول، بما فيها بعض الدول العربية، وذلك بفرض اشتراطات على الأوجه التي تصرف فيها تلك المبالغ والتمحيص بالمعونات التي يقدمونا على شكل أسلحة عبر تحديد أميركي لواقع الاحتياج، بدلا من الدعم بناء على أوامر الطلب التي ترد من الدول.

فوز الديمقراطيين بأحد مجالس الكونجرس سيفتح لنا الباب لواقع سياسي أميركي جديد، والأيام القادمة ستكشف لنا مزيدا دون شك، وأكيد سيكون للحديث بقية.