سعدت بدعوة معالي الأستاذ الدكتور محمد العقلا، مدير الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، لحضور فعاليات "المؤتمر العالمي الأول عن جهود المملكة العربية السعودية في خدمة القضايا الإسلامية" الذي عُقد ما بين 13 و15 محرم 1432.

وأول ما يلفت النظر الانفتاحُ الجديد للجامعة على المجتمع السعودي بأطيافه كلها. ويناظر هذا ما كانت عليه الجامعة في تاريخها السابق؛ إذ كانت قلعة معزولة لا يدخلها إلا أصناف معينة من البشر، وكان هناك نفور متبادل بينها وبين فئات عدة من المواطنين، كالنساء والمثقفين.

وكان الإنجاز الأبرز للدكتور العقلا أنْ كَسر هذه العزلة غير الطبيعية للجامعة الإسلامية. ومن شواهد ذلك دعوته لعدد كبير من المثقفات السعوديات وغير السعوديات اللاتي شارك بعضهن في إدارة النقاش في ندوات المؤتمر المتتابعة. وكان هناك حضور مكثف للكتّاب والمثقفين السعوديين. ويمكن الإشارة إلى تغيرات أخرى واضحة نشهدها لأول مرة في جامعة "إسلامية" سعودية. ومنها ظاهرة التصفيق (!) عند انتهاء كلمات المتحدثين، وإعجابا ببعض المداخلات، واستحسانا لمنظومات الطاووسيين!

وهناك بعض الملحوظات على تنظيم المؤتمر أبداها الحاضرون، ووافقهم على وجاهتها الدكتور العقلا نفسه. ومن أهمها اشتمال كل ندوة على أكثر من عشرة باحثين. ولا يسمح هذا للباحثين ببسط النقاط المهمة في أبحاثهم، ولا يتيح وقتا كافيا للنقاش. كما اتُّبعتْ في هذا المؤتمر ممارسة غير معهودة في المؤتمرات. وهي أن يجلس الباحثون إلى منصة المنتدى صامتين وينوب بعض طلبة الجامعة عنهم في إلقاء ملخصات أبحاثهم! وكان ذلك مصدرا للملل، لأن الذين يلقون الملخصات كانوا يلقونها بنغمة خطابية تقريرية لا تشبه الإلقاء العلمي.

وبلغ عدد الأبحاث في المؤتمر مئة "بحث"؛ وهذا عدد كبير لا يمكن استيعابه في يومين ونصف. بالإضافة إلى ندوات عامة مسائية طويلة، مما أدى إلى إرهاق الحاضرين.

ومن المؤكد أن الجامعة الإسلامية ستستفيد من هذه الملحوظات وغيرها مما سمعه القائمون على المؤتمر لتتجنب وقوعها في مؤتمراتها القادمة.

والملحوظة الأهم التي يخرج بها من تابع المؤتمر أن "الأبحاث" التي ألقيت فيه، جميعها، اقتصرت على إبراز الجانب الإيجابي لـ"جهود المملكة في خدمة القضايا الإسلامية". وتدخل تلك الأبحاث، كلها، في باب الثناء على تلك الجهود، إن لم نقل أشياء أخرى. ولم يتطرق أي من تلك الأبحاث المئة إلى السلبيات التي ربما نتجت عن بعض تلك الجهود ـ على المملكة، وعلى من استهدفتهم تلك الجهود. وتكفي ثلاثة أمثلة في الدلالة على بعض تلك النتائج السلبية الواضحة.

يتصل المثال الأول بدعمنا لقضية كشمير. فلا يشك أحد أن وضع المسلمين في الهند أفضل بكثير من وضعهم في باكستان منذ استقلالهما سنة 1947م. ومع هذا فقد جعلنا دعمَ باكستان والعناصر الانفصالية في كشمير من الأولويات. ونتج عن ذلك نشوء جماعات كشميرية متطرفة جدا أسست لثقافة عنف تجاوزت كشمير إلى باكستان وما وراءها. ومع ذلك استمررنا في دعم تلك الجماعات الانفصالية العنيفة ماديا ومعنويا، وإن بشكل غير مباشر ـ ونية حسنة، وظللنا ندعو لـ "مجاهدي" كشمير في خطب الجمعة، وعادينا، بسبب ذلك، الهند التي تقف دائما مع القضايا العربية في المحافل الدولية. وظلت هذه القضية من غير حل.

والمثال الثاني أننا دعمنا كثيرا من الجماعات "الإسلامية" ماديا ومعنويا لعقود، ولما جاءت ساعة الحقيقة نفضت تلك الجماعات أيديها منا وانحازت ضدنا. وأكبر شاهد على ذلك ما حدث بعد غزو صدام للكويت.

ويتصل المثال الثالث بالنتائج السلبية التي نتجت عن دعمنا لمن يسمون بـ "المجاهدين الأفغان". ولا يمكن الاعتراض على مقاومة المواطنين الأفغان للمحتل السوفيتي، لكن لا يمكن لأحد أن ينكر أن بعض زعماء تلك الجماعات الأفغانية إنما كانوا ينفِّذون الخطط الأميركية ضد الاتحاد السوفيتي في إطار الحرب الباردة، وقد انقسموا إلى جماعات يبيعون ولاءهم لمن يدفع لهم.

وقد تبين بعد خروج الجيش السوفيتي المحتل أن أولئك الزعماء أبعد ما يكونون عن الوعي السياسي بواقع وطنهم ومستقبله؛ فقد ظلوا محكومين بنزعاتهم القبلية والفئوية التي حصرت اهتمامهم بمصالحهم القبلية والفئوية الضيقة بدلا من المصلحة العليا لأفغانستان. ويشهد بذلك تأبيهم على الجهود السعودية الحثيثة للمصالحة بينهم.

ولا شك أن المساعدات التي أسماها الأمير تركي الفيصل، في محاضرته في المؤتمر، بـ"الدعم المستور"، وكانت تُدفع "لكل فصيل مجاهد بحسب أدائه"، أسهمت في تقوية بعض الزعماء الأفغان ضد زعماء آخرين كانوا يتلقون مساعدات من جهات أخرى. وأدى هذا إلى إطالة أمد الاحتلال السوفيتي، لأن أولئك الزعماء كانوا مستفيدين من الوضع، وهو ما أدى فيما بعد إلى استمرار الحرب الأهلية الدموية بمجازرها الرهيبة وتدميرها الفظيع الذي لم يحدث مثله أثناء الاحتلال السوفيتي.

ومن اللافت قول الأمير تركي إن "من الأمور التي أصرّ عليها المجاهدون ألا نزوّدهم بالرجال، لأن عندهم ما يكفيهم وأبقوا على المتطوعين في معسكراتهم حريصين على ألا يصيبهم أذى"، وأن "عدد من شارك من المتطوعين في القتال مع المجاهدين كان يسيراً جداً لا يتعدى العشرات وذلك طوال مرحلة الجهاد".

والسؤال هو: ما دام أن الحال كانت كذلك فما المسوِّغ لأن يعيش المجتمع السعودي لسنوات طويلة رهينة للتعبئة بثقافة "الجهاد" التي دفعت بآلاف "الشباب" إلى معسكرات التنشئة الإيديولوجية على التطرف والعنف في مناطق الحدود الباكستانية الأفغانية، وهي التعبئة التي خلقت لنا مشكلات كبرى لا نزال نعاني منها؟

ويدعو هذا إلى إيضاح السياق الذي صوّر تلك الجهود على أنها من أداء واجب النصرة لـ "المجاهدين" الأفغان بالمال والانخراط في القتال إلى جانبهم. إن ما حدث في تلك الفترة كان اجتهادا خاطئا منا، وقد حان الوقت لنعترف بذلك.

وهناك أمثلة أخرى توجب علينا المراجعةَ النقدية الحازمة والصادقة لمساعدات جلبت علينا وعلى الآخرين أضرارا أكثر مما جلبته من منافع.

ويمكن أن تفيدنا المراجعة الأمينة لأخطائنا في الماضي في عدم الوقوع في مثلها مستقبلا. ومن أهم ما يمكن أن نقوم به الآن حصرُ المساعدات السعودية للخارج في أيدي الجهات الحكومية بدلا من تركها في أيدي بعض الهيئات الشعبية التي ربما يكون لها أولويات لا تتوافق مع أولويات السياسة الخارجية السعودية. ويشهد بذلك أن بعض الدول لا تزال تشتكي من أن مثل هذه المساعدات تستغل لتمويل أعمال العنف التي لا تريدها الحكومة السعودية ولا الهيئات الشعبية نفسها.

كنت أتطلع لأن يكون هذا المؤتمر تقويما علميا لجهود المملكة في مساعدة الآخرين، وهو ما يفترض أن يشتمل على النظر في الإيجابيات والسلبيات معا، أما قصر الاهتمام على إبراز الإيجابيات فلا يؤدي إلا إلى الرضا عن النفس، والوقوع ضحية لمجاملة بعض المتنفعين، والتمكين لهم.