كشفت الأزمة الأخيرة في قضية مقتل الزميل جمال خاشقجي في إسطنبول الشهر الماضي، والتداعيات الإعلامية والسياسية بشأنها، أن القضية ليست في جمال، فهو في نظرها مجرد حالة تم توظيفها إعلاميا وسياسيا، بصرف النظر عن الحالة نفسها كقيمة عند المستخدمين، ودرجة أهميتها أو علاقتها المباشرة بسياق مصالح أو اهتمامات الدول والجهات والمؤسسات التي تبنتها. وتحول جمال من ذاتيته الإنسانية إلى موضوع، بدءا من تعامل أفراد المخابرات معه، مرورا بالحكومة التركية وتسريباتها الإعلامية، وانتهاء بماكينة الإعلام الضخمة العالمية، وركوب الساسة على حمار الإعلام لتسريع أجنداتهم السياسية، أو اقتناص مكاسب شعبوية أو انتخابية، أو تمرير صفقات سياسية واقتصادية بدأت تظهر آثارها وشواهدها تباعا في كثير من الدول والجهات، إذ مع انهيار منظومة القيمة أو القيم الفلسفية أو تغيرها لم تعد القيمة في الذات بما هي ذات، بل أصبحت الذات شيئا، وصارت قيمة الشيء في نفعيتها وقابليتها للاستخدام، أو إثارتها الاهتمام وفضائحيتها، وهذا ما جعل شخصيات مثل اعتماد خورشيد وعادل حمودة في فترة من الفترات مثيرة للاهتمام، حتى كانت مذكرات اعتماد تطبع كل أسبوع طبعة جديدة وتنتشر في كل أنحاء العالم العربي، رغم أنها أقرب إلى الدعارة السياسية منها إلى الوثائقية السياسية، وأصبح سياسيا مثل صفوت الشريف يتحكم مخابراتيا في كل مفاصل الحياة الثقافية والفنية والإعلامية.

لذلك، ليست القيمة لديهم في جمال بحد ذاته، ولا في قضية الاختفاء والقتل، فمثل هذه القضايا رغم عدم أخلاقيتها تتكرر كثيرا في عالم الاستخبارات والجاسوسية العالمية، وبعضها نموذجي، وبعضها الآخر رديء الحبكة، بحيث تصبح روايات إيان فيلمنج وأجاثا كريستي وشيرلوك هولمز إعجازية قياسا ببعض الحبكات، والمسألة نسبية، فالذي يجعل العملية مبهرة أو غبية ليس السيناريو المعد فيها، بل نجاحها أو فشلها، فعملية عنتيبي الإسرائيلية، وعملية لارناكا المصرية تتبعان السيناريو نفسه تقريبا، ونجاح الأولى وفشل الثانية هو ما فرق بينهما بالإدهاش والبلادة.

ولكن خلف كل هذه الهبّة الإقليمية والعالمية وامتداداتها الشعبية تبرز قضايا رئيسية هي لب القضية وأسها العميق، أما الهبّة نفسها فقد أخذت مداها وبدأت في الانحسار رغم محاولة تركيا وتسريباتها المدروسة، والقنابل الإعلامية الموقوتة لوسائل إعلام لها، أو تستخدمها مثل وكالة الأناضول الرسمية والجزيرة الحمدية، أما الوسائل الدولية مثل الواشنطن بوست اليسارية، وBBC البريطانية وRT الروسية المدعومتين حكوميا وغيرها، فهي ترغب في إطالة أمدها ريثما تجد قصة أخرى وموجة إعلامية ثانية تستخدمها لأهدافها بصرف النظر عن نتائجها.

ولذلك، فإن التوقف عند رصد هذه الهبّات والغرق في تفاصيلها يعمينا عن الأسئلة الجوهرية الكامنة خلفها، وعدم النفاذ إليها وتحليلها، والتوقف عندها مليا، يعد قصرا في النظر، وتشتتا في التفكير، وانعداما في الرؤية العميقة، وسأطرح ثلاثة أسئلة جوهرية سأحاول مقاربتها تباعا:

1- هل تستحق هذه القضية رغم فداحة خطئها وسوء الدبرة فيها كل هذا الضخ الإعلامي المكثف، والتواطؤ المنظم من حكومات وجهات إعلامية؟ أو تلك الضجة العالمية التي واكبتها؟

2- لماذا السعودية تحديدا تتعرض لهذا القدر من الهجوم؟ وهل لو جرت هذه القصة أو أشد من دولة أخرى غير السعودية، وفي دولة أخرى غير تركيا، يحتشد لها كل الأطراف بهذا الشكل؟

3- اتهمت وسائل الإعلام السعودية أو الموالية للسعودية والمحبة لها بالتقصير والارتباك، خاصة في الأسبوع الأول، وبالإنشائية والانفعالية في خطابها العام، فكيف تكون المكاشفة والمراجعة والتخطيط للمرحلة القادمة دون الدخول في النفق النفسي لجلد الذات؟

إن معظم المراقبين -حتى من غير المحايدين- يجمعون على أن هذه القضية قد تم تسييسها وضخمت على غير العادة، فهناك قصص كثيرة طابعها سياسي بحت، ولا شبهة جنائية فيها كقضية خاشقجي، مثل اغتيال خليل الوزير أبو جهاد في تونس على يد الموساد، وقضية لوكربي، واغتيال رفيق الحريري على يد سورية وحزب الله في بيروت، وتسميم ياسر عرفات، واغتيال ياداييف الشيشاني على يد الروس، ومحمود المبحوح على يد الموساد، ومحاولة اغتيال الملك عبدالله بتدبير القذافي وحمد، وآخرها تسميم الجاسوس الروسي سكريبال جنوب بريطانيا، وغيرها كثير، ومع ذلك لم يتول كبرها دول وقنوات وصحف عالمية كما فعلت مع قضية جمال، وكثير من عرب الشمال لم تهتز لهم شعرة على الحريري، وأبي جهاد والمبحوح وعرفات، ولا على أحمد ياسين الذي قتل وهو عائد من صلاة الفجر على كرسي متحرك، مع أن السعودية ليست إسرائيل عدوهم التقليدي، وجمال ليس له الوزن السياسي والديني للسابقين، وهو مواطن سعودي قتل على أرض سعودية حسب اتفاقية فيينا، ولكن أهل الميت صبروا والمعزية كفروا.

وبهذا السياق نستطيع أن نفهم لماذا خصصت قناة الحمدين كل عواجلها وتغريداتها وتقاريرها، ولم تبق أحدا لم تستضفه له صلة أو لا، يفهم أو لا يفهم، طالما يستطيع أن يقول جملتين يحشر فيهما اسم السعودية وقيادتها ثم يقول ما يشاء، وبهذا السياق يتحول رئيس دولة إلى رئيس حزب يتبادل الأدوار فيها مع وزير خارجيته ونائب رئيس حزبه وبرلمانه في تصريحات مدروسة التوقيت، محددة الأهداف ومعروفة الغايات، ليس هذا مجال التفصيل فيها، لكن يكفي أن نعلم أن هناك أكثر من ثلاثين شخصية رسمية وحزبية في تركيا أدلت بتصريحات هجومية في قضية خاشقجي، ومن هذا السياق نفهم تمرير إطلاق القس الذي كان قبل حادث القنصلية مسألة حياة أو موت، ومرفوضا دينيا وسياديا وقوميا، وأزمة الليرة التركية التي هزت اقتصاد الدولة مجرد حديث عابر في وسائل الإعلام دون حل على أرض الواقع.

فالضخ الإعلامي المكثف كان كقميص عثمان -رضي الله عنه- الذي رفعه كل من ليس له حق المطالبة بدمه حتى حدثت الفتنة الكبرى في عهد الخلافة الراشدة، والذين رفعوا شعار جمال -وإن اختلفت الأهداف- يؤولون إلى أمر واحد هو أن هذه الحملة المسعورة ليست حبا في علي، وإنما كره في معاوية، وهذا يقودنا إلى السؤال الثاني: لماذا السعودية تحديدا؟