لا صوت يعلو في اليمن حاليا على وقع التقدم المتواصل الذي تحرزه قوات الجيش الوطني والمقاومة الشعبية، بإسناد قوي من طائرات التحالف العربي لاستعادة الشرعية، في إطار مساعي تحرير مدينة الحديدة من قبضة ميليشيات الحوثيين، واستعادة مينائها الإستراتيجي الذي طالما استغله المتمردون في استلام الأسلحة التي يرسلها لهم النظام الإيراني، والتي لولاها لما استمر أمد الأزمة في اليمن، ولما تجرأ الانقلابيون على مهاجمة السفن التجارية، وتهديد حركة الملاحة الدولية في باب المندب.

وقد أحسنت قيادة التحالف وهي تكشف عن الأعداد الكبيرة من الصواريخ الباليستية والصواريخ المضادة للسفن، التي تركها المتمردون قبيل فرارهم تحت وطأة النجاحات المتتالية للجيش الوطني، وهذه الأسلحة كانت ستعرّض الاقتصاد العالي والتجارة الدولية إلى مخاطر كثيرة، لا يعلم مداها إلا الله، لو تمكن الانقلابيون من استخدامها وفق ما كانوا يخططون.

منذ تفجر الأزمة وسيطرة الحوثيين على مقاليد الأمور في اليمن عبر الانقلاب، ومصادرتهم للشرعية، استخدموا ميناء الحديدة لاستلام الأسلحة الإيرانية، لذلك سعت قوات الجيش الوطني عدة مرات إلى استعادته، لأنه المنفذ البحري الوحيد الذي يمكن من خلاله توصيل المساعدات الغذائية والطبية لليمنيين في المناطق الخاضعة لسيطرة المتمردين، وأن من شأن استعادتها إنهاء تهديد الحوثيين للملاحة البحرية في باب المندب، وقطع الإمدادات الإيرانية لهم عن طريق البحر، وحصرهم في المناطق الداخلية والجبلية، وتمهيد الطريق أمام استعادة بقية المحافظات والمدن اليمنية، وفي مقدمتها العاصمة صنعاء.

كما سعت قوات الجيش الوطني إلى السيطرة على الميناء الإستراتيجي، بعد أن أوقف الحوثيون دخول المساعدات الإغاثية عن طريقه، مما جعل غالبية الشعب ترزح في معاناة إنسانية تحت سلطة الانقلابيين، لكن القوات الموالية للشرعية كانت تؤجل تلك الخطوة لمنح الفرصة للحل السياسي، وإتاحة المجال للقوى الكبرى المؤثرة دوليا لإلزام المتمردين بالتجاوب مع جهود مبعوثي الأمم المتحدة، إلا أنها تقاعست عن فعل ذلك، وارتضت الوقوف موقف المتفرج واختارت الحياد السالب، وأمام ذلك الموقف، وبسبب تعنت الانقلابيين اتخذت الحكومة الشرعية التي يقودها الرئيس عبدربه منصور هادي، قرارها الحاسم باستعادة محافظة وميناء الحديدة، وبدء الخطوات العسكرية الكفيلة بتحقيق هذا الهدف.

ما إن انطلقت الأعمال الحربية، وبدأت القوات الموالية للشرعية تشق طريقها بثبات نحو تحقيق هدفها، حتى انطلق بعض الأصوات التي اعتادت التخذيل، ومحاولة إبقاء الأوضاع في اليمن على ما هي عليه، واستغلال الظروف الإنسانية الصعبة للشعب اليمني لتحقيق أجندة سياسية خاصة، وطفقت تكرر أسطوانتها المشروخة لمحاولة التأثير على تحركات قوات الجيش الوطني لاستعادة الميناء، بذرائع واهية مفادها أن ذلك سيعرض ملايين المدنيين لخطر المجاعة، إذا تأثرت حركة الميناء بالعمليات العسكرية، وهذه دعاوى باطلة يفندها الوضع الإنساني المتردي في المناطق التي ما زالت في أيدي الانقلابيين، لأن عناصر الميليشيات لا يلقون بالا في الأساس لمصير المدنيين، ولا يكترثون للمعاناة التي يواجهونها، والدليل هو إقدامهم على احتجاز عشرات السفن المحملة بالمواد الغذائية والمشتقات النفطية في الميناء، ورفض دخولها، تمهيدا لمصادرتها وتوزيعها على منسوبيهم.

ليس ذلك فحسب، بل إن ما زاد عن حاجتهم استكثروا توزيعه على أبناء الشعب اليمني، وحوّلوه للبيع في الأسواق السوداء، بل أكثر من ذلك هو إقدامهم على إتلاف ما لا يملكون القدرة على تخزينه والحفاظ على صلاحيته، على نحو ما فعلوا مع الأدوية والمستحضرات الطبية التي صادروها في تعز، عندما استولوا على كميات كبيرة من أنابيب الأكسجين التي تستخدم في المستشفيات، وأيقنوا أن مدة صلاحيتها ستنتهي قبل أن يتمكنوا من إيصالها إلى المدن التي تحت سيطرتهم، فلم يتورعوا عن إفراغها في الهواء، في الوقت الذي كانت فيه مستشفيات تعز أحوج ما تكون إليها.

وما يزيد من حجم الأسف أن مسؤولي كثير من المنظمات الدولية الموجودة في اليمن يدركون هذه الحقائق، وشاهدوها بأعينهم، لكنهم يحجمون عن إعلانها وتأكيدها، في سياق حساباتهم السياسية، ورغبة في تحميل قوات التحالف وزر الأوضاع الإنسانية التي يعانيها اليمن، رغم أن العالم أجمع يدرك حقيقة الطرف المتسبب في ذلك، ويعلم تماما من هم الذين تسببوا في وصول الأوضاع إلى هذا المستوى، بمصادرتهم السلطة الشرعية، وتنكيلهم بالمدنيين، وإفسادهم الحياة السياسية، وإصرارهم على إفشال جولات المفاوضات السابقة، سواء التي عقدت في الكويت أو التي كان من المفترض أن تعقد في جنيف، لكن المشاعر السالبة والحسابات الآنية الزائلة تدفعها إلى غض الطرف عن كل تلك الحقائق. لذلك، ما إن يحقق الجيش الوطني والقوات الموالية للشرعية تقدما في جبهات القتال، ويحاصر الانقلابيين ويكبدهم خسائر فادحة، حتى ترتفع أصوات تلك الأطراف منادية بإبرام «هدنة إنسانية»، للسماح بدخول المساعدات للمدنيين، فيما الهدف الحقيقي هو محاولة تمكين الحوثي من إعادة ترتيب صفوفه، والتقاط أنفاسه، واستلام أسلحة جديدة، إلا أن التصميم الذي تبدو عليه القوات الموالية للشرعية بمواصلة معركة استعادة الساحل الغربي، ومن ضمنه مديرية الحديدة، وتكثيف الجهود العسكرية في بقية المناطق، مثل صعدة وتعز والبيضاء، سيؤدي لا محالة إلى تسريع فرص الحل السلمي، وإرغام قادة الميليشيات المتمردة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، والتعاطي الإيجابي مع الجهود الرامية إلى إنهاء الأزمة في اليمن، لا سيما بعد تراجع دور الأمم المتحدة ومنظماتها الدولية، وتغليبها الأجندة السياسية على الأدوار الإنسانية المرجوة منها.

لذلك، فإن معركة الحديدة ستكون خيرا كلها، وستصب نتائجها مباشرة في مصلحة الشعب اليمني، فإما تتمكن القوات الموالية للشرعية من استعادة الميناء الإستراتيجي، توطئة لوضع حد للانقلاب وكتابة آخر فصول هذه الفترة السوداء من تاريخ اليمن، وإما تتمكن من توظيف ضغطها العسكري على الانقلابيين، لإجبارهم على العودة إلى طاولة التفاوض، والتوصل إلى حل نهائي، وكلاهما انتصار لليمن ورسم للسعادة على شفاه أبنائه.