قبل سنوات خلت، دار حديث متشعب عن الأوطان، كنت إحدى الحاضرات مع مجموعة من الأخوات العربيات. قالت إحداهن، وقد لاحظتْ حماسي الشديد في الحديث عن وطني العظيم المملكة العربية السعودية: أحترمُ حبك لبلدك، وأقدر مشاعرك الوطنية، لكن لدي خبر سيئ لك.

قلت: خيرا إن شاء الله.

قالت بثقة متناهية: العالم مقبل على ثورة معلوماتية هائلة، سيصبح قرية صغيرة، جميع بيوتها مكشوفة بالكامل على بعضها، لا يختبئ فيها سر، ولا تخفى خافية.

قلت: حسنا وما السيئ في الأمر؟.

قالت: أنت الآن في غاية الإعجاب بوطنك لسبب واحد، هو أنك لا تسمعين إلا ما تريد الحكومة إسماعك إياه، ولا ترين إلا ما تراه، فليس أمامك سوى القناة السعودية الرسمية أحادية الرأي والاتجاه، لكن ماذا سيكون حالك وحال ملايين من السعوديين المتيمين بوطنهم مثلك، عندما تتدفق عليكم مئات القنوات، وتنهال عليكم آلاف الآراء والأفكار، ويخاطبكم بأعلى مستويات الإقناع المؤرخ والمفكر والمحلل والمراقب بل والحاقد والمبغض والحاسد؟!

سيتفنن الجميع في عرض بضاعتهم، وتتعرى الحقائق أمامكم، سيدير لكم التاريخ وجهه الآخر الذي لم تعرفوه يوما، ستسمعون كل يوم بل كل ساعة مئات الدعوات المتناقضة، وستضيع بوصلتكم في تحديد اتجاه الحقيقة الممزقة.

أربكني كلامها قليلا، وتمنيت أن يطول الأمد بيني وبين هذا اليوم المرعب، فأنا أريد أن أحب وطني في أمن ودعة، وأخشى عليه خشيتي على نفسي ووالدي وولدي، ولكنني تداركت مخاوفي بكلمتي التي أرددها دائما: «للسعودية رب يحميها».

كانت محدثتي العربية على قدر كبير من العلم والمعرفة، كما وأنها قد عاشت سنواتها الأخيرة في أوروبا، ورأت ما لم أرَ، وتعلم ما لا أعلم، لكنها ختمت حديثها قائلة: جميل حبك لوطنك يا فاطمة، لكن -لا قدر الله- عندما ستفقدينه ستحبينه أكثر!

ذهبت محدثتي، وذهبت معها تلك الأيام، ووجدت نفسي وجها لوجه أمام الأحداث والتطورات التي رسمتها لي، وكان كل شيء كما روت تماما إلا شيء واحد، فأنا وكل السعوديين لم يختل توازننا، ولم تفقد بوصلتنا حساسيتها، بل ظلت تشير دائما نحو وطننا العظيم، وصورة قادتنا لم تهتز كما تنبأت بل ازدادت جمالا وتألقا، وتاريخ بلادنا لم يترنح، بل أسفر عن وجه أكثر بياضا وجمالا، لم نكن لنعرفه من قبل، ومواقف بلادنا بقيت ثابتة، ورايتنا بقيت مرفوعة، واسم بلادي المملكة العربية السعودية بقي عظيما مهيبا، يتلعثم العالم قبل أن يأتي على آخر حروفه.

توالت الأحداث، وتكالب الأعداء، وكشر حتى بعض الأصدقاء عن أنيابهم، وبقيت السعودية هي السعودية، والسعودي هو السعودي.

أين أنت يا صديقتي العربية، لأخبرك أن بلادي في عهد الانفجار المعلوماتي تقود أكثر من ثلاثين دولة، وتتحكم في اقتصاد العالم، وتستولي على قلوب مئات الملايين من العرب والمسلمين، وغيرهم من المحبين والمعجبين، وهم يرونها مباشرة تحتضن حوالي مليوني مسلم سنويا في الزمان والمكان كليهما، في معجزة عالمية تنظيمية إنسانية إدارية تتكرر كل عام.

أين أنت يا صديقتي العربية، لأخبرك أنني ازددت -مع ملايين السعوديين- حبا لوطني، وشغفا بسعوديتي، وولاء لقادتها، وعشقا لترابها، ولكن دون أن أفقدها، ولله كامل الحمد والمنة على ذلك!.