متعب القرني



في عام 2010، نشر الفيلسوف الفرنسي ماتياس رو (1976-) كتابه «سقراط يلبس الجزمة: مقدمة رياضية للفلسفة»، في محاولة منه لإدخال كرة القدم في نطاق الفلسفة وإسقاط أنشطتها وقضاياها على المشكلات الفلسفية الكبرى، ما يجعل كتابه مُساهمة لجذب الشباب المهمومين بالرياضة إلى ميادين الفلسفة وجدلياتها. يضع رو خروج منتخبه الوطني فرنسا أمام إيطاليا في نهائيات كأس العالم 2006م سياقاً أصلياً لمناورة أفكار فلسفية يحاول طرحها في الكتاب، تتعلق بالزمن واللغة والسلطة والرغبة والحرية والعدالة. فعلى سبيل المثال، يربط رو الزمن بحركيّة الكرة على أرضية الملعب لا بانطلاق صافرة الحكم، فوجود الوقت الإضافي بعد انتهاء الوقت الأصلي إشارة إلى أن توقف الكرة عن التحرك هو توقف كلي للزمن، يُستقطع ويُضاف في نهاية اللعبة. كما يشير إلى أن هزيمة فرنسا تمت بسبب ركلات ترجيحية إجبارية تتنافى مع مبدأ العدالة. فتأبّي اللعبة على أن تنتهي بالتعادل المُرضي بين طرفين جعلها تُرجّح طرفاً على آخر وتؤيد مجال السلطة والمغالبة القسرية.

هذا الكتاب لرو يدفعنا لمراجعة مواقفنا الابتذالية لكرة القدم كمجال عبثي صبياني لا يستحق الفُرجة والمتابعة. فإشكالات كرة القدم ابتداءً من إعدام فريق دينامو كييف الأوكراني عام 1942م، إلى مؤامرة ألمانيا والنمسا على الجزائر عام 1982م، وفوز الأرجنتين بيد مارادونا عام 1986م، جميعها تتضافر للاعتراف بها كمجال غني حيوي يطرح سؤالات جدلية مع كل ميدالية تُقلّد ومع كل مونديال يُقام. واليوم يمكن القول بأن خروج الفائزين بكأس العالم من دور المجموعات في المونديالات التالية لانتصاراتهم أمر مثير يدعو للنظر والتحقيق. ففي عام 1998م فازت فرنسا بكأس العالم ثم خرجت من الدور الأول عام 2002م، بعد هزيمتين مفاجئتين من السنغال (1-0) والدنمارك (2-0). وفي عام 2006م ظفرت إيطاليا بكأس العالم ثم خرجت من الدور الأول لكأس 2010م، بعد ثلاثية قاسية من سلوفاكيا. وهكذا الحال مع إسبانيا بطلة كأس العالم عام 2010م، خرجت عام 2014م من الدور الأول بعد هزيمة بخماسية من هولندا، وقبل أيام خرجت ألمانيا من الدور الأول بعد هزيمتين غير متوقعتين من المكسيك (1-0) وكوريا الجنوبية (2-0) رغم كونها بطلة الكأس ذاته عام 2014م.

هذا الإقصاء المفاجئ للأبطال في المونديالات التالية لانتصاراتهم على مدى عشرين عاماً (1998-2018) يشرعن الأسئلة عن المحرك الأساس لهذه الديناميكية المشّغلة لهذه السلطة التغالبية. وقد تكون العوامل النفسية التي تُخلّفها الإنجازات والاستحقاقات من ثقة بالنفس وتقدير للذات واحتقار للمنافسين وراء هذا الطور التاريخي المتنامي. فنيل أحد المنتخبات كأس العالم يحمل دلالة تفوقه على جميع المنافسين، كما يعني أن ثقته العالمية تتصاعد مع ازدياد ثقة الجماهير به واهتمام الآلات الإعلامية بتذكير المتابعين بمستوياته وأدائه الفني البطولي طوال أربع سنوات متلاحقة. هذه الثقة بالذات وهذا الضوء والضجيج الإعلامي المكثف تُبهر أبصار الأبطال وتصمُّ أسماعهم فتُفقدهم القدرة على رؤية مستوياتهم الذاتية وسماع الأخبار عن تنامي مستويات المنتخبات المنافسة بعد فترة من الزمن. فمعرفة البطل بأداء منافسيه في النسخة السابقة تحرمه من فرصة التقييم السليم لذات المنافسين في الدورة المونديالية التابعة، وتنسيه بأن الأداء الرياضي قابل للتطور والتجديد فيسقط ضحية في أولى مواجهاته مع المنتخبات الضعيفة. يضاف إلى هذه الأسباب أن نيل كأس العالم يعطي إشارة لجميع المنتخبات تدفعها لتحاشي مواجهة بطل النسخة الماضية، ما يزيد من حضورها البدني والذهني بما يكفيها لمقارعة هذا الخصم البطل. باختصار، الإستاد الرياضي الحاضن للجماهير ليس إستادا عمرانيا مجوّفا بلا معنى، بل أرضية خصبة ونامية تختلط فيها العوامل الإنسانية والنفسية والفلسفية، وتفتح أبوابها الواسعة للجميع للدخول في مجالها الخلاق، بعيدا عن الخطابات الممتهنة لها تهميشا وتقزيماً.