يتساءل البعض عن اختلاف الرأي وأحيانا تناقضه، للكُتاب والمحللين المدافعين عن المملكة العربية السعودية منذ 2 أكتوبر، وهو اليوم الأول لقضية خاشقجي - رحمه الله - إلى هذه الأيام.

يردف أحدهم، هذه التناقضات موثقة في المقالات والقنوات والمنصات الأخرى، ولا يمكنكم طمسها أو إنكارها، وكأن القائل يريد أن يقفل علينا أبواب الهرب، ظنّا منه أننا نتوارى أو نخجل من تغيير الرأي والتحليل والتصاريح.

ومن باب رسم الدهشة على المُحاوِر، بادرته بالقول، نسيت أيضا الروايات السعودية الرسمية، والتي كانت مختلفة ومتعددة، منذ أول تصريح لولي العهد في لقائه بمجلة بلومبيرج في 5 أكتوبر إلى ما تلا ذلك من بيانات.

وللتحليل المبسط والمنطقي لهذا الاختلاف، فإن الأمر لا يعدو أن يكون طبيعيا جدا، بل هو دليل حقيقي على المصداقية، لكونك أمام قضية اختفاء مفاجئ لرجل، لا يسعك إلا أن تتصور السيناريوهات المحتملة بناءً على شُح أو انعدام المعلومات الموثقة، بادئ الأمر.

وحين اتضحت الحقيقة، أصدرت السعودية بيانها الأول، واعترفت بمقتل الرجل في قنصليتها في إسطنبول. هذا البيان الشجاع يعد أول بيان حقيقي رسمي في هذه القضية، يشرح مصير جمال خاشقجي، والذي رفع من مستوى الأداء السعودي، لكون مصدره الرياض وليس واشنطن ولا أنقرة، مما يدل على مستوى عال جدا من الإدارة السعودية لإدارة الأزمة، لأنها أحبطت التسريبات التركية، وأعطبت الإعلام القطري المأجور، وعرّت حصونا إعلامية كبرى، كنا نتوقع أنها محصنة بالمهنية الإعلامية والمصداقية، حتى شاهدنا تبرؤها من تلك القيم.

ولأن التحقيقات مع الجناة تختلف من مرحلة إلى مرحلة أخرى، وبالتالي فإن اختلاف الرأي والتصاريح - وحتى البيانات الرسمية - هو طبقا للمعطيات المتوافرة من الجناة أنفسهم، الذين يقدمون للمحققين المعلومات تدريجيا، خلال عدة جلسات وليس خلال جلسة واحدة، ولا حتى 10 جلسات.

السعودية أعلنت أن القضية جنائية، وأنها تحت التحقيق الذي يستدعي وقتا طويلا لسماع إفادات الجناة، ومحاصرتهم بالأدلة والبراهين، بينما إردوغان وبقية الجوقة الإخونجية، يصرون على أن تكون القضية سياسية، وقاموا بتسريب معلومات أدت إلى كسر المبدأ القانوني في مسألة التوقف عن النشر، والإدلاء بأي معلومات قد تؤثر على القضية المنظورة، بغرض الإساءة من جانب والاستغلال الاقتصادي من جانب آخر، لهذه القضية التي تحولت من جريمة جنائية إلى بازار، ليس من تركيا فحسب بل حتى من ألمانيا وفرنسا وغيرهما، للمشاركة في جزء من كعكة المشروعات السعودية.

الوطن تجاوز الأزمة بكل احترافية، وخرجنا بمخرجات نباهي بها العالم، من ناحية البسالة في الإقرار بالقضية، وكف أيدي مسؤولين كبار اتضح تورطهم، وتقديم العشرات من المتهمين للعدالة، بل ومطالبة النيابة العامة بالقصاص من 5 أشخاص من هؤلاء المتهمين.

كانت تلك مؤشرات إيجابية أكدت هيبة الدولة، وأظهر الكيان السعودي على أنه دولة عدل أمام العالم، بوقوفها إلى جانب المواطن المغدور به، وإلى جانب أسرته التي وعدت الدولة -على لسان القيادة الأولى- بأنها ستحقق العدالة وتنتصر لجمال، رحمه الله، ولأسرته الكريمة، حفظها الله.

لقد عودنا الوطن أن العدالة ستنال الجميع دون استثناء لأحد، كائنا من كان، هذه الحقيقة يدركها المواطن، محليا، إلا أن الرسالة اليوم وصلت إلى المجتمع الدولي بأسره.

يصعب تحميل الإعلام السعودي مسؤولية كل ما حصل، لا سيما أننا لم نهيئه لمثل هذه الأزمات، ثم يفاجأ بهذه الحادثة وما واكبها من هجوم عالمي مُركّز، وبطريقة وكمية غير مسبوقة، ولربما لو وقعت هذه الحادثة لبلد آخر لانهار تماما، لما يقتضيه من إخلال في التوازن، وارتباك لا نظير له أبدا، على مستوى تاريخ المعمورة.

لعل الاستشراف المعرفي الجديد، يسهم في حل مشكلة غياب المؤشرات في الحالات والأزمات الوطنية، كأن يكون هناك رصد عملي يقدم مؤشرات لحالة معينة تهم الوطن والمواطن، داخليا وخارجيا، وربما يكون باكورة عمل إعلامي خارجي جديد.

إن توجهنا إلى العالم الخارجي، إعلاميا، يجب أن يتضمن رسائل ثلاث: رسالة موجهة إلى الشعوب، وأخرى إلى المنظمات، وثالثة إلى صناع القرار في العالم.

قد نتجاوز التركيز على المجتمع الأميركي، لأن غالبه غير مهتم بالقضايا الخارجية كثيرا، ونتجه إلى المجتمع الأوروبي والشرقي عموما.

إن التركيز على التواصل المباشر مع المنظمات الدولية وصناع القرار في الحكومات، سيؤتي ثماره خلال استحداث مؤسسات علاقات عامة وإعلامية دولية، في مختلف العواصم والمدن الكبرى، ليس في القضايا السياسية فحسب، بل حتى في قضايانا المحلية، كالسياحة والفنون واستعراض إنجازات المواطنين العلمية والثقافية، وما توصل إليه كثيرون من أبناء وبنات الوطن من تعليم وابتكارات ومراكز مرموقة في المؤسسات الدولية.