يعد يوهان غوته أحد الأدباء الألمان العباقرة الذين خلدهم التاريخ من خلال ما تركه من تراث أدبي وعلمي ثري، وما يلفت الانتباه لدراسة أدب غوته هو تأثره العميق بالشرق، ولا سيما الشرق العربي، بأدبه وشعره، وعلى وجه التحديد المعلقات السبع التي اهتم بها غوته اهتماما كبيرا.

 كانت المعلقات مألوفة بشكل واضح عند غوته، وأثرت في شعره بطرق متباينة وصلت حد المحاكاة لأسلوب وطريقة شعر المعلقة، وما يتخلله من وقوف على الأطلال ووصف لحزن الشاعر وهو يودع معشوقته، ومشاهد أطلال المنازل التي كانت آهلة بالسكان فيما مضى فأصبحت ديارا مهجورة ورسوما بالية.

 وجد غوته في الشعر الجاهلي وبالذات المعلقات السبع العودة إلى الحياة الفطرية في طبيعتها الساحرة، ووجد فيه بساطة حياة البدو الرحل في حلهم وترحالهم في ملبسهم ومأكلهم، في حياة سهلة لم تزل تحمل بذور الفطرة الإنسانية في نقائها وبساطتها، فضلا على ما تحويه القصيدة الجاهلية من فضائل ومعان أخلاقية سامية تتفاخر بالشجاعة والشرف والعشق والكرم والصدق، وهذا ما جعل من الشعر الجاهلي عاملا مهما من العوامل التي جذبت غوته في هجرته الروحية نحو الشرق، هربا من حالة الاغتراب الروحي التي عاشها الأدباء الأوروبيون الذين نفروا من المذهب الكلاسيكي المعتمد على العقل والواقعية المحضة المجردة من الخيال والعاطفة، هذا مع ما كانت تعيشه أوروبا من أحداث سياسية قاسية وانتشار للحروب والاضطرابات. فاتجه غوته بعواطفه وأفكاره تجاه الشرق حيث الطمأنينة والسلام بعيدا عن الحروب والدمار.

 هاجر غوته هجرته الروحية نحو الشرق بعاطفة جياشة وفكر مفعم بالخيال، في رحلة وصفها في قصيدته التي تحمل عنوان (هجرة) قائلا فيها:

 الشمال والغرب والجنوب تتحطم وتتناثر

 والعروش تشل والممالك تتزعزع وتضطرب

 فلنهاجر إذن إلى الشرق الطاهر الصافي

 كي تستروح جو الهواة والمرسلين

 هنالك، حيث الحب والشرب والغناء

 سيعيدك ينبوع الخضر شابا من جديد

 إلى هنالك حيث الطهر والحق والصفاء

 وهذا الاهتمام بالشعر الجاهلي أثمر عنه ديوانه الخالد الذي يحمل عنوان (الديوان الشرقي الغربي)، وترجم هذا العنوان للعربية ليكون (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي)، ويلاحظ أن غوته احتفظ بالمصطلح العربي (ديوان) الذي لم يكن شائعا في الأدب الألماني والأوروبي آنذاك، مما يؤكد رغبته في إضفاء الصفة العربية على كتابه.

 تأثر غوته بالقصيدة العربية في قوافيها وجرسها الشعري التي يمتدحها بقوله: «تتخذ أشعارهم مظهر المنظومات المقفاة، وهو نوع يحتاج إلى عبقريات من الطراز الأول من أجل إنتاج شيء ممتاز فيه»، ولعل قصيدة امرئ القيس (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) ذات تأثير شديد على أسلوب غوته في قصيدته (ذروني أذرف العبرات) التي يقول فيها:

 ذروني أذرف العبرات، محاطا بالليل

 في الفلوات اللامتناهية.

 الإبل تستريح، وكذلك أصحابها

 والأرمني يسهر ويحب في صمت

 التي تفصلني عن زليخا، وأكرر

 المنعرجات الثقيلة التي تطيل في الطريق

 ذروني أسكب العبرات!

 وفيها يتضح التقارب مع مقدمة امرئ القيس في تصوير الحزن والمشاهد الطبيعية والبكاء على الأطلال، وما يعتمل في النفس من الأسى بسبب فراق المحبوبة، ويعكس مقدار تأثره بعبقرية قصائد المعلقات، وفي هذا الصدد يقول المستشرق الألماني فايشر: «تحتوي كل الأنواع في الأدب الألماني على النمط الشرقي لذى دعت له الثقافة الأوروبية في ذلك العهد الرومانتيكي الذي اجتذب الأدباء إلى الشرق».

 لم يخف غوته افتتانه الشديد بشعر العرب وارتباطه العميق بآثارهم الدينية والأدبية، مما جعله يظهر للعالم بصورة متسامحة أو بصورة وسيط بين الثقافتين الشرقية والغربية. وهذه الصورة المتسامحة غير المتحاملة التي أبداها غوته تجاه الشعر العربي تعكس رسالة الأديب الحقيقي ومدى ما يحمله من عاطفة جياشة صادقة لم تحجب عن عينيه الرؤية، فأطلق مقولته التي افتتح بها تعليقاته وشروحه في ديوانه (الشرقي الغربي): من يرغب في استيعاب الشعر فعليه الذهاب إلى بلاد الشعر... ومن يرغب في فهم الشعراء فعليه الذهاب إلى أرض الشعراء.