تحولت اللغة الإنجليزية من لغة أقليات في القرن السادس عشر إلى اللغة الأولى في التواصل العالمي، وذلك في فترة تقل عن أربعة قرون، بدأت فيه بالانتشار السريع، فأصبحت اليوم لغة العولمة والتخاطب بين شعوب العالم، مما يثير التساؤل حول القوة الخفية للغة الإنجليزية، وكذلك القوة الخفية الداعمة لانتشارها ونموها.

كانت بريطانيا إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وتحكم المحيطات والبحار، أما اليوم فاللغة الإنجليزية هي التي تحكم المحيطات والبحار، بعد أن رُوج لها على أنها لغة تتجاوز الحواجز العرقية مما يجعلها لغة توافق اجتماعي في المستعمرات،

ما يجعلها تنفرد باتساع النطاق الجغرافي، كما تنفرد بعمق تغلغلها في المجتمعات.

أغلب الدول العظمى قدمت ولا تزال تقدم قدراً كبيراً من ميزانيات التمثيل الخارجي لدعم البرامج الثقافية، وأهم هذه البرامج هو تعليم اللغات ونشرها، وهذا يعد أهم الأسباب التي دعت لتأسيس المجلس الثقافي البريطاني الذي ينتشر في دول كثيرة حول العالم، ويحظى بدعم دبلوماسي وإشراف مباشر من وزارة الخارجية البريطانية.

والسؤال هنا: ما نوع الدعم البريطاني لتعليم اللغة الإنجليزية عبر المجلس البريطاني الثقافي، وما أشكال التدريب والبحوث التي تجري في بريطانيا في هذا الخصوص، مع تزايد الأقسام الأكاديمية في الجامعات ومدارس اللغة وتزايد المطبوعات وجميع العوامل التي جعلت من تعليم اللغة الإنجليزية صناعة عالمية متكاملة.

تمت صياغة أهداف المجلس كما هو مذكور في التقرير السنوي للمجلس عام 1940 على النحو التالي «إن الهدف الرئيس للمجلس هو خلق قاعدة لعلاقة ودية في كل بلد من بلدان الخارج من أجل فهم ودي لشعب هذه البلاد وفلسفتهم وطريقة حياتهم، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى التعاطف مع السياسة الخارجية البريطانية، مهما كانت تلك السياسة ومهما كان منبع معتقدها».

هذا يعكس أن انتشار اللغة الإنجليزية كان نتيجة للسياسة الخارجية للبلدان الأصلية للغة الإنجليزية، مما يعني أن تعليم اللغة الإنجليزية متورط في الشأن السياسي وله تبعاته الاقتصادية والإيديولوجية، وهذا سيخلق بطبيعة الحال شكلين من العلاقات، علاقة المراكز الثقافية الرئيسة بالمراكز الفرعية التابعة، علاقة المنتج للثقافة والمستهلك لهذه الثقافة.

لم يكن البريطانيون هم الوحيدون في مسألة الترويج لمصالحهم في الخارج بالطرق الثقافية، فقد قام الفرنسيون والألمان بالترويج للغاتهم أيضا، وحتى الاتحاد السوفيتي كان نشيطا جدا في الدعاية الثقافية في الخارج، وكل هذا كان عبر اللغة التي تعد هي الوعاء الحامل للأفكار، وبعد الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة بالقوة العسكرية والاقتصادية، مع أدوارها الثقافية التي كانت متسقة مع الأدوار البريطانية حول اللغة الإنجليزية وأهمية نشرها، انفردت اللغة الإنجليزية بالهيمنة على ثقافات الشعوب، وأصبحت هي اللغة الأولى على المستوى العالمي.

 في البداية ارتبط الدعم البريطاني للدول الإفريقية الفقيرة التي تعاني المجاعة بنشر اللغة الإنجليزية، فقد كان الدعم الاقتصادي متلازما مع دعم تعليم اللغة الإنجليزية وترسيخها في نسيج المجتمع، مع الإيعاز بأن اعتماد اللغة الإنجليزية سيكون هو الطريق المضمون نحو التنمية والازدهار، مع أن هذه الدول لم تحقق أحلامها نحو التنمية حتى اليوم.

 أسس المجلس الثقافي البريطاني وفق مصالح تجارية وسياسية تنبع من الأصل -الدول الناطقة بالإنجليزية- وهي المركز وتعود إليها، فضلا عن الرعاية الملكية التي جاءت في مراسم التنصيب الرسمي عام 1935حيث ذكر أمير ويلز: «يجب أن تكون اللغة الإنجليزية هي قاعدة عملنا إذ نحن نهدف نحو شيء أكثر عمقا من مجرد تقديم معرفة سطحية للغتنا، إن غرضنا هو أن نساعد أكبر عدد نحو تقدير أمجاد أدبنا، ومساهمتنا في الفنون والعلوم، ومساهمتنا البارزة في الممارسة السياسية، ويمكن إنجاز هذا بالترويج لدراسة لغتنا في الخارج على النحو الأفضل».

 لقد حددت أهداف المجلس للترويج لمعرفة أوسع بالمملكة المتحدة وتقوية العلاقات الثقافية بين المملكة المتحدة وبلدان أخرى لغرض إفادة مصالحها في الخارج، لذلك كان المجلس ملزما لتوضيح ومراجعة نشاطاته للحكومة البريطانية ووزارة الخارجية التي تمنحه التأييد الدبلوماسي.

وهذا الدعم الحكومي للمجلس البريطاني يصب في المصلحة العامة، إذ إن توظيف مصادر الأمة الثقافية في الخدمة القومية كان على الدوام نصب أعين المسؤولين عن المجلس، ومصادر الأمة الثقافية تشمل كل إنجازات الأمة قديما وحديثا في مجالات الفكر والفن والعلوم والآداب والاختراعات، وكل هذه المجهودات ستؤدي لخلق حالة من عدم المساواة بين اللغة الإنجليزية واللغات الأخرى، وستعمل على تشجيع تعليم اللغة الإنجليزية في المدارس والجامعات الأجنبية، وحول هذه القضية يقول روبرت فليبسون في كتابه الهيمنة اللغوية: «وشملت هذه العملية نشاطات واسعة استعملت فيها اللغة الإنجليزية كوسيلة مثل المراكز الثقافية والجمعيات المحبة لإنجلترا والمنح الدراسية للدراسة في بريطانيا، ودعم المدارس البريطانية في الخارج والتبرعات لمعارض الكتب والعروض المسرحية».

 وما ذكر آنفا يبين مدى استغلال الحكومة البريطانية للجوانب الثقافية في خدمة الأهداف السياسية والاقتصادية، وفي نفس المصدر السابق ذكر التقرير السنوي للمجلس لعام 1984 أن هدف المجلس الثقافي البريطاني هو الترويج لفهم وتقدير دائمين لبريطانيا في البلدان الأخرى من خلال التعاون التقني والتربوي والثقافي. أما التقريران السنويان التاليان فقد أشارا إلى أن المجلس الثقافي البريطاني هيئة مستقلة تروج لبريطانيا في الخارج، وله مكاتب في إثنين وثمانين بلدا. وأصبح التفاهم يعني عمل أصدقاء جيدين لبريطانيا وجعل الأجانب محبين لها.