(بداية)

ها هي وزارة التعليم تخرج إلينا -وهي دائما ما تخرج- بمقرر جديد و«سريع» تحت مسمى هائل في الدلالات المعرفية والعلمية، وهو «التفكير الناقد والفلسفة»، والذي سيكون بين أيدي طلابنا في المرحلة الثانوية مع بداية الفصل الدراسي الثاني، أي «خلال شهر واحد من الآن.. فقط»!

ولن تكون «طلعة» هذا المقرر الدراسي جديدة على المتابعين للبرامج والمشاريع التعليمية، والتي أصبحت تتساقط على رؤوسهم كليلٍ صاخب تتساقط كواكبه بغزارة على رؤوس المتعاركين «على قول جدنا بشار»، لدرجة أن قادة العمل التعليمي لدينا لم يقدروا على انتظار فصل دراسي آخر، لإقرار مؤلف بهذا الحجم المعرفي «الثقيل»، وهو الذي لم يقرر في جامعاتنا منذ بداية حركة التعليم فيها، وحتى الآن.

«الشغل» في وزارة التعليم «ما يلعب»!. فليس هناك إلا «عمليات ولادة مستمرة» للميدان التعليمي، بفضل القراءات التصفحية الذكية لأي فكر تعليمي مثالي في المصادر الباذخة، أو لسماع استشارات خبرائها البريطانيين واليابانيين الذين

يتحدثون لهم عن مشاريع تعليمية «مثالية»، دون إدراك حقيقي لحقيقة الفكر العلمي والتعليمي لدى أبنائنا وبناتنا، ومستوى بيئات التعلم، والحاجات الرئيسة الغائبة في مدارسنا، والتي تحول بينها وبين ممارسة «تعليم» خالص ذي مخرجات منتجة وحقيقية في المكون التعليمي نفسه، ثم في المكونات الأخرى المنتظرة كالمكون الثقافي والاجتماعي!؟

وبعد: تفكير ناقد وفلسفة.. هكذا «حتة وحدة»!

ففي ذهنية المشرعين والمقررين: «وليه لا؟ ما الذي ينقصنا، هو حنّا ما نقدر نجعل أبناءنا يتفلسفون ويمارسون أرقى مستويات التفكير؟!».

ولكن الحقيقة الصادمة أنه ينقصنا «كثير» للأسف، وأنه لا يمكن..لا يمكن أن نصل بأبنائنا إلى هذه المرحلة الناضجة المتأخرة للتفكير في غمضة عين، أو من غير «شغل» سابق -حقيقي وشاق- أما «شغلنا» بهذه الطريقة فهو كالشغل الذي يمارسه معظمنا في قروبات التواصل «نسخ ولصق وتوجيه»!، وسأقارب معكم هذا المشهد، لعل.. لعل «قومي» يعلمون.

والأمر الآخر، أنه يتحتم علي «الاختصار» المكثف لغزارة المعلومات، وتعدد دلائل الإقناع، وأهمية الموضوع البالغة، والتي يحتاج لطرحها ومحاورتها «أجزاء كثيرة» من المقال، ربما لا تتناسب مع زمن التلقي بعد ذلك، مستعينا بذلك «الاختزال» بقدراتكم الذهنية على الاستيعاب، وبذكائكم المنشود في فهم السطور، وما بين ووراء السطور.



 (1)

سيكون هذا «المقرر» بعد شهر «وحيد» ضمن مقرر «المهارات الحياتية»، وهو المقرر الذي يتكون من موضوعات غاية في السهولة، لدرجة أن الطلاب لا يعبؤون به ولا ينظرون إليه نظرتهم للمقررات الأخرى!

ألم يستطع قادة التعليم كبح جماح انفعالهم العملي والتريث قليلا، حتى يكتمل هذا المشروع «الكبير» ويخرج إلى الطلاب بشكل مستقل يليق بمكانته المعرفية، حتى لا يستقر في وعي الطالب منذ البداية عدم أهمية المقرر الجديد!



 (2)

من سيدرّس لأبنائنا مهارات «التفكير الناقد»، ومبادئ «الفلسفة»؟ وهي التي لم تُدرَّس في أي مدرسة ومعهد وجامعة وكرسي بحثي في بلادنا حتى الآن؟،

هل هم معلمو «المهارات الحياتية» أنفسهم؟، هل كانت في جامعاتنا أقسام علمية لمثل تلك التخصصات؟!، كيف كانت النظرة الجمعية للفلسفة واتجاهات النقد الحديث في بيئاتنا الدينية والاجتماعية والتعليمية والثقافية؟

فسنوات «كثيييرة» من الغياب والرفض لا يمكن «حلها» في أشهر قليلة؟، وبالتالي فإن إجابات هذه الأسئلة الحارقة تفضي إلى حقيقة الصعوبة البالغة في إيجاد المعلم الذي يستوعب -بعمق واقتناع- أهمية ومفردات هذا المقرر الجديد، ليقدر على النهوض بتعليمه للأجيال القادمة!.

إننا عندما نقرر بعد ذلك تكليف مدرسي التخصصات الموجودة بالفعل، فإننا سنرتكب جناية كبرى في حق «العلم والمعرفة والفكر والفلسفة»!، وفي حق «تعليمنا» طبعا!.



 (3)

أما الشاهد القاتل في الموضوع «كله»، فهو أن إقرار هذا المقرر وتدريسه في هذه المرحلة التعليمية، وفي ذلك الوقت القريب، ليس له ما يبرره ويشرعنه على الإطلاق، بل إن ذلك يعد خطأً جسيما على مستوى المعرفة وتعليمها، إذ إن ثمة مرحلة رئيسة سابقة، كان يجب الوقوف عندها «كثيييرا» في كل ما فات من زمننا التعليمي، حتى نستطيع أن نؤهل طلابنا لهذا «المقرر»، وهي مرحلة تكوين وتأسيس «التفكير العلمي» في ذهنية المتعلم لدينا، فمن غير وجود «العقلية العلمية» في رؤوس أبنائنا، لا يمكن إنتاج أي من أنماط التفكير التالية كالتفكير الناقد أو «الإبداعي مثلا». هل يستقيم الظل والعود أعوج؟ هل يمكن أن نتوقع أن إنسانا ما مجردا من آلية التفكير العلمي الصحيح -التي تؤهله لاستيعاب المعلومات استيعابا عميقا ومقنعا- يستطيع أن يفكر تفكيرا ناقدا، يجعله يقيس مستوى الدقة العلمية في المقروء، أو مستوى الاتساق المنطقي، أو درجة البرهان والإقناع فيه، أو يدرك أن الاستنتاجات التي يقرؤها مبنية على مقدمات خاطئة وأفكار مغايرة للموضوع؟!



 (4)

دعوني أثبت لكم هذا الزعم، فمن مهارات التفكير الناقد معرفة المقدار المعرفي الذي أضافه الكاتب للنص «كرؤية خاصة»، مما يمنحه حكما تقويميا إيجابيا، تمييزا له عن الحقائق المقدرة مسبقا.

هذه المهارة لا يمكن استكناه تجلياتها إلا بعد معرفة أحد مبادئ التفكير العلمي، «كالشمولية» مثلا، والتي تعني أن الحقيقة العلمية قابلة لأن تنتقل إلى كل الناس الذين تتوافر لديهم القدرة العقلية على فهمها والاقتناع بها، أي أنها حقيقة علمية أو «مشاع» public، متجاوزة بذلك النطاق الفردي لمكتشفها، وحين يعرف المتعلم ذلك يستطيع أن يخوض في مسألة إضافة الكاتب للسياق المعرفي من عدمه، وكذلك مبدأ «التراكمية» للتفكير العلمي والذي تكون فيه المعرفة العلمية أشبه بالبناء «طابق معرفي فوق آخر في تصاعد عمودي أبدا»، مع فارق أساسي، وهو أن سكان هذا البناء ينتقلون دوما إلى الطابق الأعلى الذي استقرت فيه المعرفة في لحظتها الآنية، منتظرة لحظات أخرى قريبة قادمة.



 (5)

ومن مهارات التفكير الناقد كذلك تحديد مستوى الدقة العلمية! «يا كبرها..ويا لطف الله!». طلابنا يحددون مستوى الدقة العلمية! وهم لم يسمعوا على الإطلاق بأهم مبادئ «التفكير العلمي»، ولم (يمروا أو يتعرفوا أو يعرفوا) المرحلة الأولى للعقل العلمي «scientific»!.



 (6)

أما عن «الفلسفة» فباختصار تام أقول: إن طلاب هذه المرحلة التعليمية «لا يحتاجونها»، أو لا تتسق مع المطلوب منهم «علميا» الآن، لأن الطالب «يكفي» منه أن يمتلك «الفكر العلمي» الذي يبحث في كل مرة عن «النظام».

في التفكير العلمي، نجد أن العقل البشري هو الذي يبحث عن ذلك «النظام» في عالم معقد ومتشابك في جزئياته وظواهره، ووسيلته إلى ذلك اتباع «منهج علمي» method، أي طريقة محددة تعتمد على خطة واعية، وصفة «المنهجية» تلك هي أهم ما يحتاجه الطالب في مراحل تعلمه، حتى دخوله العالم الجامعي، وهي أهم مبادي العلم وتعلمه على الإطلاق!



 (7)

أخيرا، فإن استكناه وتعمق سمة التفكير العلمي في الذهنية المتعلمة، تجعلها تمتلك -بلا شك- الأطياف الأولى لشخصية طالب العلم الحقيقي، الذي من أبرز مقوماته امتلاكه الروح النقدية «ذاتها»، والموضوعية في «الحكم على الأشياء»، والنزاهة العلمية، والانعتاق من أهم معوقات التعلم الحقيقي: التفكير الخرافي أو الأسطوري، والتعصب وإقصاء الآراء الأخرى، والخضوع لسلطة الماضي أو الأسماء «الشهيرة» أو الإعلام المضلل، أو بشكل عام التخلص من كل السلبيات التي نشاهدها واقعا مؤلما في «تعليمنا»ّ!.

 

(8)

ما قيمة «العربة» بدون «حصان» يقودها؟!