تعتبر مراكز الدراسات والأبحاث من أهم المؤسسات التي يحرص عليها الأكاديمي والباحث ووسائل الإعلام وصانع القرار والمنظمات الدولية والحقوقية على حد سواء، لكن تختلف أهمية الاهتمام تبعا لاختلاف الجهات المستفيدة من تلك المراكز والعلاقة الترابطية بينهم، فعلى سبيل المثال يهتم الأكاديمي والباحث بهذه المراكز للاطلاع على كل ما هو جديد في مجال علمه وعمله، وأيضا يحاول أن ينشر أفكاره ومقترحاته وبعض دراساته وأبحاثه، وآخر ما توصل إليه في مجال تخصصه. أما صانع القرار وهو ما يهمنا في هذا المقال أيا كان تخصصه أو مجاله، فتعتبر هذه المراكز أكبر مساهم في دعم قراره قبل اتخاذه، وتتنبأ بنتائج ذلك القرار من خلال صناعة سيناريوهات مستقبلية لكل خطة أو قرار مستقبلي، فهي ترتكز على مقوماتها المبنية على الدراسات والمسوح الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسة أو التقنية، التي أجرتها قبل تقديم المشورة لصانع القرار، فبحسب الباحث والدبلوماسي الأميركي المشهور، ريتشارد هاس، عندما وجه له سؤال، هل تؤثر مراكز الأبحاث فعلا في صناع القرار؟ وهو رئيس مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة الأميركية، ومدير دراسات السياسة الخارجية في معهد بروكنجز، وأستاذ زائر على منحة سول لينووتز للدراسات الدولية في كلية هاملتون، وزميل أول في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي. كانت إجابته «أن مراكز الأبحاث تملأ الفجوة بين الحكومة والجامعات، حيث إن العمل الحكومي يتطلّب متابعة تفصيلية يومية، ممّا يحرم الموظفين الحكوميين من الفرصة للتركيز، ومن راحة البال، اللذين يعتبران من أهم عناصر البيئة المشجعة للبحث العلمي. وأما الجامعات فهي تعاني المشكلة المعاكسة، حيث إن بُعْدَ عملها عن القرارات الحكومية اليومية يدفعان الباحثين الأكاديميين نحو الدراسات النظرية ذات الأهمية المحدودة، لأن دراسة الأستاذ الأكاديمي تستغرق وقتا طويلا، ويركز على القضايا النظرية والأبعاد الديموجرافية والعلاقات السببية، كما أنها ضعيفة الارتباط بالمستجدات والقضايا اليومية التي تحتاج إلى قرارات سريعة، فتكون الإحصاءات أو الدارسات التي يتم الانتهاء منها، وتقديمها لصانع القرار، غير دقيقة لتغيرها مع الوقت، أما مراكز الدراسات والأبحاث فهي الذراع الاستشاري العلمي والعملي المتخصص لتقديم الحلول الرصينة التي تستند على الدراسات التشاركية والتقارير اليومية وورش العمل، وتوطين الأفكار والمؤتمرات والحلول العملية والاستشرافية والتأهيل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، من خلال برامج متنوعة، كما أنها تستطيع أن تضع خطط الكسب تأييد المجتمع، ولذلك تقدم دعما حقيقيا لصانع القرار بشكل سريع وآني، وبالتالي نجد مثل هذه المراكز تسهم في استمطار الأفكار من الباحثين والمهتمين والشباب، وتقدم لهم الدعم، بل إن الحكومات دائما ما تستفيد من كوادر مراكز الدراسات في تشكيل قيادتهم، فأصبحت من أهم مصادر الكوادر التي تعمل في الحكومة، ذلك لأن العمل البحثي المهني يمنح الباحث خبرة، في فهم البعد الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي لأي قرار يتم اتخاذه، فعلى سبيل المثال عام 1980، إبان حقبة الرئيس الأميركي رونالد ريجان قام بتعيين ما يزيد على 150 موظفا من مراكز أبحاث، في مناصب حكومية مهمة، منها مؤسسة هيريتدج (Heritage Foundation)، وأسهمت تلك الكوادر في أكبر انتصار للولايات المتحدة في كثير من المجالات. أيضا وسائل الإعلام دائما ما تعتمد على مركز استطلاعات الرأي البحثية في قياس الرأي العام، وأيضا في توجيه سياساتها الإعلامية، ومضامين رسائلها والأمثلة في ذلك كثيرة. ولعل القنوات البريطانية من أكثر القنوات اعتمادا في تقاريرها على نتائج ودراسات تلك الأبحاث والدراسات الصادرة من المراكز العلمية، بل أصبح من أهم أسس أي قناة إعلامية أن تستقطب ضيوفا من مراكز الدراسات والأبحاث، لتشخيص مشكلات معينة ومن ثم تقديم وصفات واستشارات لها، ففي الآونة الأخيرة لقيت مراكز الدراسات والأبحاث رواجا كبيرا في الولايات المتحدة، وامتدت لتصل إلى منطقة الشرق الأوسط، وأصبحت تستعين بالعقول العربية لفهم واقع منطقتنا، فيقوم الباحث والأكاديمي العربي بتقديم مشورته العلمية وخبرته العملية لهذه المراكز الدولية، وعندما يتم سؤال هذا الباحث والأكاديمي عن سبب توجه لمثل هذه المراكز العالمية تكون الإجابة أنه لا توجد مراكز علمية تقوم باحتوائهم وأيضا لا يوجد الدعم الكافي. ففي عام 2015 قالت الرئيسة للجنة العلوم في مجلس العموم البريطاني إن وزير الخزانة يتعين عليه «تعزيز قاعدة العلوم في المملكة المتحدة بقوة» من خلال توفير مزيد من التمويل، ففي اعتقادي أن كل مؤسسة ومنظمة حكومية لا بد لها من وجود مركز دراسات يسهم في صياغة قراراتها وبناء إستراتيجيتها بشكل بناء.