تختلف الرؤى حول أهمية التوجه الجديد لوزارة التعليم نحو إقرار مقرر «مهارات التفكير الناقد والفلسفة» لطلاب الثانوية، كما تتناقض حول القبول بوجوده كمقرر دراسي يسهم في بناء طريقة تفكير جديدة لدى أبنائنا وبناتنا، بما ينتج عنه تطوير لآلية تقبلهم ومعالجتهم للمعلومات التي يتلقونها، وبما يمُكّنهم من مناقشة الأفكار الواردة إليهم، فيستطيعون إعمال العقل في تحليل ما يتلقونه من معلومات لمعارف مختلفة، أو ما يتعرضون إليه من أحداث في حياتهم اليومية، بدلا من التسليم المطلق.

ومما لا شك فيه أن طرح المقرر له إيجابيات كبيرة تنعكس على تشكيل طرق تفكير متجددة تعمل على تحريك العقول نحو تحليل المعلومات الواردة للمتلقي، لمحاورتها ذهنيا وتفكيك مكوناتها العلمية المعقدة أحيانا، إلى مفردات جزئية، يتدرب خلالها العقل على عملية تقليب المعلومة وتحليلها وربطها، بما يسهم في خروجه بإبداعات جديدة وتعليلات تناقش الفكر وتخلق رؤية خاصة بالمتلقي، تعكس حصيلته العلمية وما تختزنه ذاكرته من ثقافة متنوعة، علاوة على ما يفرزه عقله من أفكار كنتيجة لما يواجهه من أحداث ومواجهات وتجارب يومية وتربية أسرية مختلفة، تسهم في قولبة فكره بنمط متفرد، وذلك جميعه يبني لديه حصانة فكرية وستارا منيعا ضد استلاب فكره واختطاف شخصيته، وبما يحول دون تشكيل نُسخ عقلية مكررة ونماذج إنسانية مقولبة في إطار واحد.

ولعله من البديهي أن تحقيق الهدف المقصود من المقرر يتطلب الأخذ بمقومات أساسية تسهم في تجديد ذلك البناء الفكري لأبنائنا إذا لم يكن إعادة بنائه، لتحديث طرق تفكيرهم وتحفيزها نحو معالجة ما يتلقونه من مؤثرات فكرية وغيرها بطرق مختلفة تبرز ذواتهم، بما يعزز ثقتهم بأنفسهم ويسهم في بناء شخصيات قيادية مبدعة، وذلك بعد سنوات طويلة من ممارسة أسلوب التلقين والحفظ في التعليم والتقييم على أساسه، وإن تحقيق الفائدة المرجوة لذلك التوجه المحمود نحو تطوير البناء الفكري بصيغته الجديدة وتطلعاته المطلوبة يتطلب في مقوماته:

1 - أن يتضمن المحتوى العلمي للمقرر جميع مضمون المناهج التعليمية والمقررات تنفيذا، بمعنى أن يصاغ محتوى جميع المقررات ومعلوماتها لجميع المراحل، بمنهجية تدفع المتلقي (الطالب) للتفكير والتحليل والربط بين المعلومات، وبما يؤهله لاستنتاج الحقائق العلمية واستنباطها خلال ما يقدم له من مفردات علمية مختلفة، بما يسهم في بناء قاعدته الفكرية الذاتية، بعيدا عن التلقين والحفظ الذي أنتج وينتج قوالب مستنسخة لعقول تفتقد القدرة والإمكانية على الإبداع والابتكار، بل ويجعل عقولهم رقما سهلا لمن يقصدهم بسوء، وصفحة بيضاء تستقبل كل من يريد التدوين عليها دون اعتراض أو مناقشة أو حتى معالجة فكرية لمحتوى الأفكار التي يستهدفها الغير، وذلك يسهم في سحق شخصياتهم وطمس أفكارهم وتبلد الإبداع لديهم، بما يضعف بدوره الثقة بالنفس ويزعزع القناعة الشخصية بالذات، ويثبط القدرة على الإقدام، ويولد الشعور بالخذلان والخضوع والإلزامية بالقبول غير الواعي بالتبعية للآخر.

-2 يحتاج المقرر إلى صياغته في ثلاثة مستويات علمية مختلفة تناسب المراحل التعليمية الثلاث (الابتدائي، المتوسط، الثانوي) بحيث يتم تدريسه لجميع تلك المراحل بمضمون يتفاوت في تعقيده وتفاصيله تبعا للمرحلة التعليمية، ويعتبر بذلك المقرر دليلا مرجعيا ومادة علمية تأصيلية مساندة، يؤسس ويؤصل محتواها لآلية البناء الفكري الناقد، ويهيئ لفلسفة العلم وتحليل مفرداته.

-3 يتطلب تدريس ذلك المقرر معلمين ومعلمات متخصصين في المجال النقدي والفلسفي في التفكير، بحيث يستطيعون فعليا المساهمة في بناء قاعدة فكرية جديدة تحقق الهدف من المقرر، وذلك تجنبا لمزالق خطيرة وسلبيات قد يؤدي إليها عدم التخصص، لأن تدريسه من قبل معلمي ومعلمات المهارات الحياتية -كما صرحت الوزارة- ليس مقبولا إطلاقا، ولا يمكن خلالهم أن يعطي المقرر النتائج المأمولة، خاصة نحن بصدد تنفيذ مشروع تعليمي مهم، طالما تطلعنا إليه بهدف تطوير أحد أهم مقومات جودة التعليم ومنهجيته الصحيحة، بما يتواءم مع مبادئ وتقنيات العلم الحديث.

لا ننكر أننا نثمن ونشيد بذلك التوجه المحمود لوزارة التعليم والالتفاتة المهمة، ولكن وكما غيره من توجهات الوزارة التي أطلقتها دون إعداد مسبق ومدروس لما تضمنته من مبادرات أو برامج، فإنها بالتأكيد ستفشل في منتجها المستهدف، ولنا في «ساعة النشاط المضافة» عبرة وغيرها كثير، لا بد أن ندرك أن الإشكالية المحورية تكمن في أن الوزارة لم تبذل الجهود المعنية الملائمة أو تتحمل المسؤولية المهنية والمؤسسية، لمتابعة ما تطلقه من برامج ومبادرات لا تنتهي، والسؤال ما جدوى تلك المبادرات؟! وما حجم النجاح أو الإخفاق الذي سجلته؟! وهل تم تفعيلها حقيقة كما هو مخطط له -إن كان هناك تخطيط-؟! وما نتائجها الفعلية على أرض الواقع بعد التنفيذ؟! إذ إنه ليس المهم تسجيل حضور إعلامي يومي وإطلاق مبادرات، وإنما العبرة بالنتائج وبالإنجازات المحققة فعليا.

وكما يتضح أن وزارة التعليم تطلق المبادرات المختلفة التي تكاد تكون يومية، دون اعتبار لأهميتها النوعية ومدى أهميتها الفعلية ودرجة أولويتها المتطلبة في برنامج الإصلاح المستهدف للارتقاء بجودة التعليم ومخرجاته، هذا ناهيك عن الافتقاد للمتابعة والتقييم، ومن جهة أخرى فإن إطلاق البرامج دون دراسة علمية ملائمة وتخطيط شامل لمستوى التحقيق الفعلي والمستهدف، وآلية التنفيذ الفاعلة، وطرق التقييم الدقيقة لقياس جدوى تنفيذ تلك السياسات والمبادرات، إنما هو تشتيت للجهود وتبديد للأموال ومضيعة للوقت الذي يقتلنا كالسيف ليقطع علينا إنجازاتنا المتوقعة وتطلعاتنا المأمولة.

يذكر أن الأكثر ضررا وخطورة في تلك السياسات أنها تعطينا اعتقادا وهميا بأننا أخذنا بالجودة في الأداء، وأننا بدأنا فعليا في عملية الإصلاح المستهدف، وعليه نترقب النتائج المرجوة، لنكتشف بعد سنوات عجاف، أننا لم نأخذ بالإستراتيجية العلمية الصحيحة في وضع السياسات وما يتبعها من إجراءات وآليات تنفيذ ملائمة.

لعل من أهم معوقات تحقيق مستهدفاتنا في مختلف القطاعات هو أننا لا نخضع برامجنا أو مبادراتنا المستهدفة لما تستحقه من دراسة شاملة لجميع ما يتطلبه المشروع من متطلبات مادية وبشرية وتقنية، بل نعمد كثيرا إلى اختزال جزئيات أو مراحل تكاد تكون جوهرية لنجاح البرنامج برمته، دون تقدير لحجم أهميتها ومدى تأثيرها، وذلك تفسيره ضعف الدراسة الخاصة بالمشروع وافتقادها المنهج العلمي والتجريب قبل التطبيق الميداني الفعلي، ومن جهة أخرى فإن ضعف المتابعة وغياب المعايير العلمية الضابطة والمؤشرات المحددة التي يمكن قياسها، يجعلان البرامج تسير بعشوائية وبما يحول دون حوكمتها ومساءلتها، أو حتى تقييم جدواها بالشكل الصحيح.