لا شك أن أحد أهم خطوات يجب أن يتبعها معلم أو متعلم أو أي مهتم بالفلسفة، هي الاطلاع على تاريخ الفلسفة ومرافقة الفلسفة في رحلتها الطويلة عبر العصور، فالأفكار لا تسقط من السماء، ولا تستحدث من العدم، ولا تنشأ بالفطرة، فكل فلسفة تقوم على أنقاض فلسفة أخرى، فالفلسفة لا تنفصل إطلاقا عن تاريخها وما مرت به من حركة تطورية عبر القرون الطويلة، وكيف تشكلت من طور إلى طور آخر حتى وصلت للعصر الحديث الذي يعتقد كثيرون أنه عصر موت الفلسفة وانفراد العلم وتطبيقاته بعالم المعرفة والبحث عن الحقيقة.

وعالم الفيزياء الشهير ستيفن هوكينج أحد هؤلاء الذين آمنوا بموت الفلسفة، وقد ذكر ذلك في مقدمة كتابه التصميم العظيم «كانت تلك هي الأسئلة التقليدية للفلسفة، ولكن الفلسفة قد ماتت، ولم تحافظ على صمودها أمام تطورات العلم الحديثة، خصوصا في مجال الفيزياء، وأضحى العلماء هم من يحملون مصابيح الاكتشاف في رحلة التنقيب وراء المعرفة».

هناك أشكال عدة لتدريس الفلسفة، ولعل تعليم تاريخ الفلسفة وترجمة أهم رموزها وطرح أفكار وفلسفات لرواد الفلسفة تعد أهم وأقدم شكل من أشكال تعليم الفلسفة، وهذه الطريقة معتمدة في كثير من بلدان العالم، فهناك من يعتقد بأن عزل الفلسفة عن تاريخها هو تفريغ لها من مضمونها.

إن الأفضل هو وضع جدول زمني لرحلة الفلسفة عبر التاريخ من عصور ما قبل الميلاد حتى عصر الفلسفة الحديثة، وكيف تمخضت أهم الفلسفات في التاريخ البشري، وظروف نشأتها، وحروب الممانعة المضادة التي خاضتها تجاه أعدائها، مع ذكر الفلسفات التي قامت على أنقاضها بعد موتها، فالفلسفة ليست في عزلة عن تاريخها، كما أنها ليست حبيسة هذا التاريخ.

يرى كثيرون أن مرحلة دراسة الفلسفة انطلاقا من تاريخها تعد مرحلة سابقة لإنتاج الفلسفة، ولكن المشكلة هنا: من يحدد هذا التاريخ؟.

إن تاريخ الفلسفة لا يخلو من قدر كبير من التحيز وفقدان الموضوعية، فأغلب الكتب التي تطرقت لتاريخ الفلسفة، وبالذات كتب المؤلفين الأوروبيين، وضعت جدولا زمنيا يلغي كل إسهامات كثير من الحضارات، وبالذات فلسفة الحضارة الشرقية، ومن ضمنها الفلسفة العربية، واختزلت تاريخ الفلسفة على الحضارة اليونانية، وكأن الفلسفة ليست إلا معجزة يونانية.

للأسف إن أغلب مؤرخي الفلسفة الغربيين وصلوا لمرحلة من التعصب والانغلاق أن اختزلوا تاريخ الفلسفة على اليونان وأوروبا، حتى كاد يكون تاريخ الفلسفة يونانيا خالصا، ولم يوسعوا نطاق رؤيتهم ليشملوا الحضارات الأخرى كالحضارة الفرعونية والفارسية والصينية والهندية والإسلامية.

وإذا رغبنا في تدريس الفلسفة فإننا مضطرون أن نحدد تاريخها، ونصنع لها جدولا زمنيا جديدا يتضمن فلسفة الحضارات الشرقية، فتاريخ الفلسفة لم يتكشف بعد على حقيقته الخالية من التحيزات، وأغلب المراجع الفلسفية التي نقرؤها اليوم لا تخلو من التحيز العرقي والثقافي، فأغلبها غير منصفة وغير موضوعية وغير محايدة، مما يحتم علينا أن نقوم بدراسة الفلسفة وتاريخها من منظور نقدي فاحص.

والغريب أن المؤرخين العرب للفلسفة أخذوا تاريخ الفلسفة بعلاته وتحيزاته، فلم تكن دراستهم تجاه تاريخ الفلسفة الغربي قائمة على مبدأ (إعادة البناء)، بل كانت قائمة على التكرار والنقل والاستهلاك المعرفي السلبي، لذلك خرجت كتب بعض المؤرخين العرب وكأنها تطابق وتساوي بين الفلسفة والحضارة اليونانية، ولم يتعاملوا معها كونها منتوجا إنسانيا يشمل كل الحضارات والأمم، بما فيها الحضارات الشرقية.

إن الشعوب اليونانية لم تعش وحدها على كوكب الأرض، والفلسفة لم تكن على الدوام معجزة يونانية، فكل الشعوب اشتركت في إنتاجها وتطورها، وحتى نبي الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الذي أُطلق عليه اسم (زرادشت) المبشر بتعاليم الإنسان الأعلى، كان فارسيا من الحضارة الشرقية، وأفكار ديكارت حول الشك المنهجي لم تكن لتنبثق للوجود لولا اطلاعه على كتب الفلسفة الشرقية، فالفلسفة كانت عصارة الفكر الإنساني المتنوع بكل أعراقه وطوائفه، ولم تكن حكرا على اليونان وأوروبا، لذلك فإنه يجب علينا قبل تدريس الفلسفة انطلاقا من تاريخها، أن نعيد النظر حول تاريخ الفلسفة ونتعامل معه بعقلية نقدية متفحصة، حتى يكون مقرر (مهارات التفكير الناقد والفلسفة) اسما على مسمى.