أوردت في مقال سابق صورة سلبية معلومة لدى الجميع يصنعها كثير من أطباء الأسرة تتلخص في التنصل من العمل والاتكالية ورمي الحمل على الطبيب العام، واللهث وراء المكاتب الإدارية، والتخفي عن المرضى، وكانت ردة فعل الوسط الطبي متباينة بين المعارض «بسوء أدب» والمعارض المهذب والصامت المحايد.

الجميل في الأمر أن ردة الفعل هذه وثقت بقوة ما كنت أتحدث عنه بشأن فئة «المهملين» هؤلاء، فعندما طرحت المقال النقدي الذي غايته البناء وخدمة المراجع «المسكين» الذي تطول به المواعيد ليرى هذا الطبيب «الأعجوبة»، عندما طرحت مقالي أوردت فيه عبارات تنفي التعميم بشكل واضح كقولي «الغالبية العظمى»، ولم أقل الكل، ثم ذيلت المقال باستثناء أقوى «ختاما فإنا لا ننكر أن فيهم من يعمل بإخلاص..»، إلا أنهم وبسبب العقل الباطن لديهم الذي لا يعرف إلا الحق -وهو ما يقومون به من إهمال- لم يروا هذه العبارات، بل فهموا أن الكل مقصود بمحتوى المقال، ولبسوا أنفسهم بأيديهم.

كان الغريب جدا أن فيهم من كانت ردة فعله تحوي مفردة رخيصة «كلاب» و«جاهل» و«سطحي»، وهناك من «عير» الطبيب العام بأنه ربما استشار طبيب أسرة، وهو ينسى أن الاستشارة الطبية من صميم عمل الطبيب، وينسى أيضا أن من يستشار لا يشمله النقد، لأنه موجود «مداوم»، إنما النقد يطال من لا يرى إلا في الأسبوع ساعة بحجة «دورات وتدريب»! بل منهم من نعت الكاتب بشخصه بنعت لا يتلاءم مع أقل درجات الأدب، علما أن هذا الناعت «طبيب»! وكل هذا لا يهم، إنما نقول رحم الله حسْن الخلق.

ومن الرائع فعلا ما رد به في الجانب المزهر كقول مدير الشؤون الفنية بقطاع أبها الدكتور المنشري: لست غاضبا لأني لست من فئة المهملين، في طابع ثقة رائع أعجبني.

من هذا كله يتضح جليا غضب عارم انتاب كثيرا منهم، متخذين الشطر الشعري القديم قاعدة انطلاق «كاد المريب أن يقول خذوني»! ولا غرابة فكثير لا تسره الحقيقة عندما تكون ضده، إنما الغرابة في ردة الفعل ودرجة الأخلاق، وكما كانت هناك محطة انطلاق، فمحطة الانتهاء كانت المثل الشعبي القائل «اللي في بطنه ريح ما يستريح»!

ومن الطريف أن يتوجه بعضهم في دفاعه بالثناء على طب الأسرة، والذي لا ينكره أحد أصلا، ويتجاهل أنني تحدثت عن «الطبيب» وليس «الطب».

وقبل الختام فإنا نكرر على أنه هناك نماذج رائعة خلاقة تكدح كدحا تلاقيه في ابتسامة مرضاها ورضا ربها، وليس كل ما أورد من حديث عنها، فهذه النماذج لا تدع للناقد طريقا عليها، فهي قلاع حصينة معطاءة تتقدم في شموخها بتقدم عمرها.

وأما في الختام، وبعيدا عن المشهد، فإن سبب ردة الفعل هذه وبصراحة هي الخوف من قرار وزاري يفعل أطباء الأسرة بشكل عملي، ويرسم لهم جداول عمل «يومية» يبين فيه مسار عمله، فليس معقولا أن جميع أطباء الأسرة «مدرب وعندي دورات»! هذا الجدول الواضح سيجعلهم متواجدين لخدمة مرضاهم كما أراد لهم القدر وكانت مهنتهم، ويقشعهم من على تلك المكاتب التي ليسوا لها أهلا بحمم التخصص، ويضع أخصائي الإدارة الصحية وأصحاب إدارات الأعمال بدلا منهم، ويربطهم إداريا بمديري المراكز الصحية بشكل مباشر دون أدنى نرجسية. فباختصار هذا هو السبب الرئيس الذي يقض مضاجعهم، لأنهم ببساطة غير متعودين على «قومة الصبح» والاختلاط بعدد كبير من المرضى، كما أنهم يفضلون الاستجمام والهدوء المطبق في ثكناتهم التي عندما يريد المريض أن يصلها فإنه يجب عليه أن يحل «متاهة» تتصف بالذكاء والدهاء، وتحوي ألف ملف وتحويلة، وأبشرهم ختاما بأن وزير الصحة مقدم على تنشيط «فعال» لطب الأسرة وأطباء الأسرة، فلا نوم بعد اليوم!.