نعبر بالمحكي السعودي، والخليجي أيضا بشبه الجملة: (على الطاير)، كناية عن جودة فهم المتلقي، وأنه التقط المعنى بحذق وذكاء، وهو يسبح في الجو طائرا قبل وقوعه على الأرض، وهذا بطبيعة الحال من باب المجاز، ولذلك قيل: إن فلانا «يلقطها وهي طايرة»، كثناء على ذهنه اللمَّاح، وعقله المتوقد، ولشبه الجملة المذكورة معانٍ أخرى، لكني أعتقد -غير جازم- أن هذا هو المعنى الأول، وتستخدم كذلك للتعبير عن السرعة في شرح شيء ما، أو توضيح أمر من الأمور.

تبادر لي هذا المعنى، وأنا أقرأ مقالا نقديا حادا لأحد الفضلاء، حول التغيير والتحول الوطني الجاري في المملكة، ولا أخفي مدى إعجابي بجرأة المقال، بغض النظر عن اختلافي معه في كثير من معانيه، أو أسلوبه، أو توقيته.

الموهبة النقدية قدرة يمنحها الله تعالى لبعض الناس، يستطيعون بها أن يفحصوا الأشياء فحصا دقيقا، فيكتشفوا عيوبها الخفيَّة، وإن كانت الموهبة وحدها لا تكفي حين التصدي والتصدر لنقد الأعمال الكبيرة الضخمة، والمنجزات الوطنية التي تعتبر تحولا حضاريا، قد لا يتكرر إلا مرة كل مئة سنة، بل لا بد من الأهلية والكفاءة لإمكانية النقد، ومراعاة التخصص، والتوافر على ثقافة واسعة متنوعة ومتعددة في الميادين العلمية والعملية المختلفة، ولا بد من أن يتسم الناقد بالعدالة والإنصاف والابتعاد عن التحيُّز والتعصب والمجاملة، وأن يحكم على عناصر العمل وفق الصفات التي تتصف بها حقيقته، وأن يعلِّل أحكامه، فيبين الأسباب التي جعلته يحكم بالجودة أو الرداءة، وعليه أن يحترس من أن تدفعه عاطفته أو ميوله الشخصية إلى بخس حقِّ المجتهد.

وبكل الأحوال، لا يمكن أن تمتلك الحقيقة المطلقة دائما، فإن كان الصواب معك في بعض القضايا والمسائل، فلا يعني ذلك امتلاكك الحقيقة المطلقة، والصواب لن يقبل إذا كان مصحوبا بتعالٍ، أو بخسا لحق، أو تشويها لإنجاز.

والنقد يعتبر أداة مهمة من أدوات التطور والتقدم الحضاري، التي لا غنى عنها لتقويم المسيرة وتطويرها، وبطبيعة الحال فإن النقد ليس على معيار أو مقياس واحد، وبالتالي فإن نتائجه لا تأتي متماثلة بحسب المشتغلين فيه، وذلك لاختلاف الأهواء والأغراض من عملية النقد، وكذلك لاختلاف تقديرات النقّاد للأوضاع لاختلاف تصوراتهم الخاصة التي تتدخل في تلك التقديرات، وحسب الأهداف المتوخاة منها -كما أشرنا-.

غير أن هناك من يحوِّل مسألة فرز إيجابيات الإنجاز في مرحلة من المراحل، إلى مجرد ذريعة لتبجيلها والثناء على من أسهم في تحقيقها، وعدم تجاوز ذلك إلى العمل على تطوير المنجز وتوسيع دائرته، الأمر الذي يوحي بأنها أقصى ما يمكن إنجازه راهنا، وهو موقف يحكم على المنجز بالجمود والتقهقر في نهاية المطاف، وبالمقابل فإن تشويه المنجز عبر النقد الموهم بالحيادية والاتزان، أو الاتجاه بعكس السائد الذي يركز على الصواب والإيجابيات عبر الثناء، هو في الوقت نفسه حكم مُعجَّل على العمل بالفشل، كما أن إغفال الزمان وتحدياته الإقليمية والدولية، وإغفال بروز مستجدات فكرية وسياسية واجتماعية تفرض على الفاعل السياسي أخذها بعين الاعتبار لتطوير ممارسته وفتح آفاق جديدة أمام تحقيق إنجازات تتلاءم مع مستجدات الوضع، هو أمر وراءه ما وراءه من النوايا السوداء التي لا يؤمن لصاحبها بائقة.

إن النقد الذي يغض الطرف عن كل ما هو إيجابي في الإنجازات، بل لا يتردد في بخسها حقها، بشكل ممنهج، تحت دعاوى وذرائع مختلفة، ليس مجانبا للصواب فحسب، بل يتحول إلى سد منيع، ومسهم أصيل في تعطيل اكتشاف الناس لجماليات مرحلة التحول، والتغير الإيجابي المطرد.

إن شعار «حرية النقد» هو دون شك، الشعار الأوسع انتشارا في الوقت الحاضر، ويدرك غير المتعامي والمنصف أن الاتجاه «النقدي» في بعض تمظهراته ليس غير مظهر جديد من مظاهر الانتهازية، وإذا حكمنا على الناس بعيدا عن الحلل البراقة التي يخلعونها على أنفسهم بأنفسهم، وبعيدا عن الألقاب الطنانة، بل على أساس تصرفاتهم وعلى أساس ما يدعون إليه في الواقع، يتضح جليا أن «حرية النقد» تعني حرية الاتجاه الانتهازي، في إدخال الأفكار المثبطة والمعوقة، أو ذريعة خبيثة لتسويق الذات بعد انحسار الأضواء والمكانة، وشعار «حرية النقد» في استخداماتها الحالية تتضمن مثل هذا الزيف والمخاتلة والتعمية لشديد الأسف، إذ يسقط هذا الشعار مع أول مكسب، أو تماهيا من صاحب الأمر مع الناقد.

وها هنا ملحظ خطير، وهو أن «النقاد الشعاراتيين»، يريدون أن يستمر الناس في اعتبارهم منصفين قلوبهم على الوطن وعلى المنجز، حتى تضمن لهم «حرية النقد» التي استغلوها من جميع الوجوه، لسبب بسيط هو عدم ارتباطهم بأي حزب، أو جماعة تحد من قبول الناس لقولهم أو فعلهم.

رؤية الوطن 2030، والتحول الوطني، لم تسندا إلى مجموعة من الهواة تخطيطا، وتنفيذا، أو وكَّل أمرهما برمته إلى شركات أجنبية غاية منجزاتها وضع تصورات التحول للشركات والمنظمات وليس البلدان، بل وقف فيها رجال الوطن ومسؤولوه على ساق واحدة، لإنجاز الحلم تخطيطا، والبدء الفعلي بالتنفيذ، مع الاستعانة بالخبرات الأجنبية، وإني لأشعر بالرثاء لجملة: (مجموعة من الهواة)، وأنا أرى فطاحلة الإدارة السعودية من الوزراء والمستشارين الذين شابت رؤوسهم في العمل الحكومي، وهم يعملون جنبا إلى جنب مع الأمير محمد بن سلمان -أيده الله- لغد أفضل وأروع للسعودي، والسعودية المستقبل.

أما عن جملتي: «الانتحار السياسي»، و«من أغرب ما يقال في هذا السياق أن يتعلم عراب التحول الاجتماعي مبادئ الإستراتيجية أول النهار ويطبقها آخره في خطط معقدة لإعادة هندسة المجتمع.»، فقراءتهما فقط تغني عن أي تعليق، وما هما إلا تكرار لشنشنة أخزم التي نعرفها، وبات كل سعودي محصنا ضدها بفضل الله.

يقول المقال في فقرة مخاتلة وضعت العربة أمام الفرس: (إن التحول الاجتماعي يحدث تغييرات عميقة في نمط الإنتاج وأسلوب الحياة، ويقود إلى متغيرات هيكلية في الاقتصاد والثقافة والسياسة والمجتمع، ثم يفضي في نهاية المطاف إلى تحولات في طبيعة السلطة السياسية. أي أن من يزعم أنه يمكن أن يحدث تحولا اجتماعيا دون الانتهاء بتغيير في طبيعة النظام السياسي هو جاهل بمقتضيات التحول في تاريخ الدول والأمم)، لم تتحدث الرؤية عن تحويل اجتماعي من أي نوع كان، الحديث دائما وأبدا، عن تحولات اقتصادية، وخدمية، ستعطي المواطن قيمته الحقيقية المستحقة، ولو قلت تحولا اقتصاديا لكان مقبولا، والتحول الاقتصادي وهو يحمل في طياته تحولا اجتماعيا يمكن التحكم به وفقا لعادات المجتمع وأعرافه التي تحكمه، أما التحول الاجتماعي فهو التركيز على تغيير هوية المجتمع ونقله من مجتمع معين إلى مجتمع مختلف تماما عن المجتمع الأول.

أما «التحولات في طبيعة السلطة السياسية»، هذه الجملة الضخمة التي ناء بحملها المقال بل الصحيفة بأكملها، فالأعمى يرى التحول من جيل إلى جيل في ولاية العهد، ونيابة أمراء المناطق، وتمكين الشباب ذكورا وإناثا، وفي أعلى السلطات، أما إن كان المقصد تحولات السلطة على نهج «الخريف العربي» فهذا ليس لك، ولا غيرك.

أكتفي بهذا القدر، فالبقية الباقية مغالطات تُنبئ عن ثقافة صاحبها، خصوصا فيما يتعلق بتحولات الدول المذكورة هناك.

أخيرا، الإخونج يلعبون الآن بالفريق الرديف، فتأمل!.