لم يكن الإمام محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله- مبتكرا للقواعد التي أدلى بها في كتاب الرسالة، فهي كما قدّمنا في المقال السابق «هكذا تكلم الشافعي»، كانت قواعد اللغة التي كان العرب يسيرون عليها في فهم كلام بعضهم بعضا قبل الرسالة النبوية، وإن لم يُدَوِّنوها، شبيهة بالميزان الصرفي والضوابط النحوية التي حكمت لفظ اللغة العربية، وكانت علاقة الألفاظ بالمعاني تحكمها قواعد أيضا فَهِمَ العرب وفْقَها نصوص الرسالة النبوية من كتاب وسنة، وجاء عصر الشافعي والناس، لا سيما الفقهاء، أحوج ما يكونون إلى تدوين تلك القواعد، بعد أن كثرت العجمة، وبدأ منهج الفهم الفارسي والرومي والنبطي للغاتهم يؤثر على منهج الفهم العربي، حتى كثر بسبب ذلك التأثير الابتداع في الدين، وأصبح أصحابه يستندون إلى قواعد في الفهم لا تتفق مع الفهم العربي.

فالشافعي بالنسبة لقواعد فهم اللغة التي سُمِّيت فيما بعد بأصول الفقه، هو كأبي الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد في علوم النحو واللغة والعروض. وقد أثمر تدوين علم أصول الفقه على يده، ثم تطويره على أيدي العلماء بعده انضباط الفقه الإسلامي ونَدْرة الانحراف فيه طيلة تلك القرون الاثني عشر منذ وفاة الشافعي وحتى يومنا الحاضر، فنحن نرى الفقه الإسلامي ظل منذ نشأته جامعا للأمة الإسلامية في الأحكام العملية، فبالرغم من اختلاف الفقهاء المجتهدين، واختلاف المقلدين أيضا، إلا أن حدود الاختلاف كانت منضبطة لم تجعل الاختلاف الفقهي بين المسلمين عامل افتراق، بل كان السائر في العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه يصعب عليه تمييز أوجه الاختلاف الفقهي بين مكونات الأمة ما لم يكن محيطا من قبل بمواضع الاختلاف ومتطلعا للنظر إليها.

نعم، مر الفقه بعصور إغراق في التقليد وتعصب للمُقَلَّدِين أدى إلى جمود في الفتوى، لكنه بسبب علم الأصول لم يمر بحال اختلال وتباين وانتهاك، حتى إننا إذا أردنا أن نقول: إن الأمة كانت واحدة في فقهها طيلة أربعة عشر قرنا فلن نعدو الحقيقة قيد أنملة.

وربما لأن علم الأصول نشأ متأخرا عن نشأة أصول الافتراق العقدي لم ينضبط الاستدلال على مسائل الاعتقاد بقواعد الأصول، الأمر الذي أدى بالأمة في مجال علم الاعتقاد إلى عكس ما كان منها في مجال الفقه، وأعني: أنها افترقت افتراقا جعلها تتباين في مسائل الاعتقاد تباينا وصل إلى التضاد، ولعلها لو اعتمدت في الاستدلال النصي بتلك المسائل على قواعد أصول الفقه لَنَجَت من هذا التباين، لكنّ أسبابا عدة حالت دون ذلك، منها كما قدمتُ سَبْق نشأة الافتراق على تدوين قواعد الأصول، وكذلك تسمية العلم الذي استنبطه الشافعي بأصول الفقه، مما أسهم في تكوين عقلية انحصار استخدام تلك القواعد في المسائل العملية دون الاعتقادية.

لذلك حين نريد أن نقدر مدى الضرر الذي ستُصاب به الأمة جراء سقوط علم أصول الفقه وإعادة بناء الأحكام التفصيلية العملية دون الاستناد إلى قواعده، فما علينا سوى تأمل حال الأمة في العقيدة، ومدى تباينها في هذا المجال، وأقصد بالتحديد من يتفقون في مصادر التلقي وهم المستظلون بمسمى أهل السنة والجماعة، من صوفية بجميع طرقهم، بدءا بالحلولي الاتحادي الخالص وحتى المريد البسيط، وأشاعرة وماتريدية وخوارج قدماء ومحدثين، وأثريين سائرين على منهج السلف، ومن شيعة زيدية.

كل هؤلاء يتوافقون في الجملة على مصادر التلقي، واجتمعوا في الفقه بسبب الاحتكام إلى قواعد الأصول وتباينوا في العقيدة بسبب التفريط فيها.

والحقيقة أن التقصير الذي حصل لدى أهل العلم في تخريج الفروع الفقهية على القواعد الأصولية، لا سيما في عصرنا الحاضر، كان دائما وراء تعميق الخلاف الفقهي، فقواعد الأصول، لا سيما في عصرنا، شهدت ما يشبه أن يكون إهمالا عمليا في استخدامها بين الفقهاء أدى إلى حدة النزاع الفقهي الذي تشهده أيامنا. وكل الذين ينادون اليوم بالتجديد في أصول الفقه أو بالاستغناء عنه، والقائلون بتراثية الإمام الشافعي، لم يقدموا حتى الساعة ولن يُقَدِّموا البديل الذي يمكن للأمة الركون إليه ويحفظها من التباين والتضاد الفقهي الذي حصل لها في الجانب الاعتقادي.

ولم يَعْد الأمر بَعَد صفة المقترحات التي لا يمكن للأمة عقلا أن تُقَامِر برصيدها العظيم من هذا العلم العزيز من أجلها، فضلا عن كون هذا الاستغناء عن تلك القواعد مخالفا لصريح القرآن الذي نص على عربية العلم بالتشريع من الكتاب والعقل عنه.

فالقول بتاريخية النص أحدُ البدائل التي يطرحها المطالبون بتجديد أصول الفقه، أو بالأحرى: هدم أصول الفقه، والمراد بها اعتبار الظروف التاريخية، سياسية واقتصادية واجتماعية، حاكمة على النص القرآني والنبوي، وبذلك يُعَطِّلُون مثلا نصوص الحدود من الجَلْد والرجم والقطع، بحجة أنها مناسبة للظرف التاريخي الذي وردت فيه تلك النصوص، ويقولون: إن هناك مشتركا مهما بين تلك النصوص، وهو حرمة الفعل المؤدي لها واستحقاق فاعلها العقاب، أما نوعية العقاب فيمكن تقديره حسب متغيرات الزمان والمكان، وليس الجلد والرجم والقطع أمرا لازما فيها، وهذا المقترح لا يمكن أن يكون بديلا لأصول الفقه لأنه في النهاية لا يُمَثِّل ضابطا، بل يُمَثِّل تمكينا للأهواء من النصوص، إذ لا يمكن أن يوجد حكم إلا وفي الإمكان القول بأنه نتاج الظروف الزمانية والمكانية، وبذلك يمكن العبث بكل أحكام الإسلام. ومن المقترحات للحلول محل قواعد الأصول: الاستدلال بالمقاصد، ومعناه: أن حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينات في الكليات الخمس حاكم على الأدلة، تُفَسَّر به وتُقْبَل وترد من خلاله. وهذا لا يمكن أن يكون صحيحا من جهة التفكير المنطقي، ومن جهة الأدلة الشرعية، ومن جهة اللازم والمآل.

أما المانع المنطقي فلأنه مفضٍ إلى الدَّور، وهو تَرَتُّب الشيء على ما يترتب عليه، وهذا ممتنع، وبيانه: أن مقاصد الشريعة مستفادة من النص الشرعي، فكيف تكون حاكمة على معانيه وهي مستفادة منه؟!

أما امتناعه من جهة الأدلة الشرعية فأوضح من الشمس، إذ النصوص القطعية كلها تدل على اتباع الوحي وليس فيها نص يدل على اتباع المقاصد ?وَاتَّبِعوا أَحسَنَ ما أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ العَذابُ بَغتَةً وَأَنتُم لا تَشعُرونَ? [الزمر: 55].

أما اللازم والمآل فلأن الاستدلال بالمقاصد أو محاكمة النصوص إليها مفضٍ يقينا إلى اتباع الهوى، إذ ما من محرم يراد استحلاله إلا وللعقل مدخل في توهيم قصد الشارع له، وما من واجب يراد اطِّراحُه إلا وللعقل مدخل في إيهام قصد الشارع لضده، لذلك لا تكاد تجد مُولَعا بإعطاء المقاصد مكان الاستدلال والحكم على معاني النصوص -هكذا مطلقا- إلا وتجده قد تورط في استباحة محرم أو إسقاط واجب مجمع عليهما، متذرعا بِقَسْرهما على مقاصد الشرع أو قسر المقاصد عليهما.

وبذلك يتأكد للدارس أن ما يُزعم من البدائل لقواعد الأصول التي كان للشافعي -رحمه الله- اليد العليا في جمعها، إنما هي أوهام وبيوت عنكبوت.