لعل أفضل ما نستهل به مقالتنا ما قاله جون ديوي أحد رموز البراجماتية الأميركية ومن المنظرين لها «إذا كان لكل أمة فلسفتها، فإن على الفلسفة الأميركية أيضا أن تعي الحاجات الخاصة لأميركا والمبدأ الكامن في نجاح العقل فيها».

وأول سؤال يتبادر للذهن: هل يمكن أن تكون الفلسفة قومية ثم تظل مع ذلك فلسفة؟ وهل يتنافى ذلك مع شمولية الفلسفة وانفتاحها؟

لا شك لدينا أن العلاقة بين الفلسفة البراجماتية (الذرائعية) والتجربة الأميركية هي علاقة متينة وضاربة بجذورها في أعماق التاريخ الأميركي، منذ وطئت أقدام الآباء المؤسسين أرض القارة الأميركية، فالفلسفة البراجماتية تدين بالفضل للولايات المتحدة في إعطائها الزخم الكبير الذي حظيت به في العصر الحديث، بعد أن ارتبطت بطريقة الحياة الأميركية، وصارت هي الممثل الرئيس للفلسفة الأميركية، ومرآة عاكسة للنمط الأميركي في الحياة، وربما تغلغلت أكثر في نسيج حياتهم، وصارت قيما للعمل والنجاح والحرية والديمقراطية، بل إن هذه القيم الذرائعية رسخت في الدستور الأميركي وخطابات الآباء المؤسسين للجمهورية.

فمنذ أن تحرر الأميركيون من تبعية الإمبراطورية البريطانية الأم، ازداد لديهم الوعي بالحاجة لفلسفة مستقلة تتوافق مع أيديولوجيتهم الخاصة ونظرتهم للحياة والعالم من حولهم، وهذا ما جعل كثيرا من الأوروبيين يرفضون الذرائعية لاعتقادهم بأنها أيديولوجيا أميركية في أعماقها، ترتبط بالمصرفيين ورجال الأعمال والقانون الأميركيين، وتعطيهم المبرر الأخلاقي فيما يحققونه من نجاح تجاري وصناعي.

إن الفلسفة أحيانا تنشأ في المجتمع بسبب ظروف اجتماعية معينة، وتكون المعبر عن ثقافتها، وكما أشار ديوي فإن الفلسفة، سواء أكان ضمنيا أو صراحة، قد تنظر نظرة تفضيل إلى مكونها الثقافي.

إن الفلسفة البراجماتية تعبير عن الثقافة الأميركية من وجهتين: فهي أولا تقوم بتدعيم بعض النواحي المحددة لهذه الثقافة، وثانيا تقوم بنقد جوانب معينة أخرى منها، وهكذا يصدق على جميع البراجماتيين المؤسسين.

وكما قال تشارلز موريس في كتابه (رواد الفلسفة الأميركية): «على الرغم من النقد التفصيلي اعتبرت الفلسفة البراجماتية تعبيرا إيجابيا أكيدا لبعض الممارسات التي وقعت في التاريخ الأميركي، بوجه عام في الديمقراطية عندما يتم النظر إليها وتفسيرها تفسيرا أخلاقيا»، وهذه الشهادة تزداد أهمية وعمقا إذا وضعنا في الاعتبار بأن قائلها فيلسوف أميركي وأستاذ للفلسفة في الجامعات الأميركية، تتلمذ على أيدي مؤسسي الفلسفة الأميركية، بحق، فقد كان تلميذا لبيرس وجيمس وديوي.

وما طرحناه آنفا، لا يقدم الفلسفة البراجماتية بصفتها فلسفة شاملة ويعطيها طابع الانفتاح بقدر ما يؤكد على طابعها القومي الذي قد يوقعها في فخ الدوغمائية، وهذا ما جعل المجتمع الفلسفي الأميركي يقيم احتفاليته بمناسبة مرور مئتي عام على تاريخ الفلسفة الأميركية بتاريخ 7/ 10/ 1976، وتعتبر البراجماتية هي جوهر هذه الفلسفة وسمتها الأبرز، لذلك فإن الأميركيين ينظرون لهذه الفلسفة كونها فلسفة خاصة بهم، وقد ربطوا تاريخها بتاريخ استقلال بلادهم، وهم على أهبة الاستعداد لبذل كل أسباب البقاء لها لتكون فلسفة عالمية تنتشر في العالم بأسره.

إن البراجماتية فلسفة للمجتمع الأميركي والبعد الفكري لقيم ذلك المجتمع ومفاهيمه ولسياسات أجهزة الحكم وصناعة القرار فيه، وقد ميزت هذه الفلسفة العقل الأميركي عن مدارس فلسفية سادت في أوروبا من المثالية وحتى الوجودية مرورا بالماركسية، ولعلنا نختم مقالنا بما قاله سيدني راتنر عن جون ديوي، وهو الركن الثاني في تكوين البراجماتية وتطورها بعد ويليام جيمس «جون ديوي هو التجسيد لأميركا، لوعيها الأكثر إدراكا، لذكائها البناء، ولإيمانها الديمقراطي الشديد».