تعاقب على إدارة المؤسسة التعليمية -منذ نحو خمسة عقود- عددٌ من المسؤولين الذين تحملوا عبء مسؤولياته الجسام، بمختلف ما تحويه تلك المؤسسة من موارد مادية وبشرية، وما تتضمنه من سياسات وأنظمة وبرامج مختلفة تستهدف جميعها خدمة التعليم ومنسوبيه، علاوة على ما يقدمه التعليم من مخرجات تشكل رافدا رئيسا يصب في متطلبات التنمية الوطنية ويغذي تطلعاتها، بمختلف ما تصبو إليه وتحتاجه من تخصصات ومهارات مواطنة، تسهم في بناء لبنات الوطن بجميع مؤسساته وموارده البشرية؛ لنحصد حاضرا يترجم تلك الجهود إلى منجزات نعيشها، ومستقبل واعد لتطلعات نأملها، وحاجات نترقب بلورتها في مشروع وطني متكامل بجميع مكوناته ومنجزاته؛ ليتحقق حلمنا الوطني في تعليم فاعل يواكب حاجات العلم المتطورة وتقنياته المختلفة، ويخدم مستهدفاتنا الوطنية المأمولة.

ومما لا شك فيه، أن جميع المسؤولين عملوا وبذلوا الجهود لدفع عجلة التعليم نحو الأمام، ليقطعوا شوطا في مسيرة التنمية المستهدفة لمواردنا البشرية، فمنهم من برع في القيادة وسابق الزمن في مرحلة من مراحل التنمية، ليترك بصماته الواضحة على تطور التعليم وانتشاره بمختلف مستوياته وأنظمته، ومنهم من اكتفى بمتابعة المسيرة وحمل اللواء لتحقيق بعض من المشروعات التي تعثرت والبرامج التي أبطأ تنفيذها لأسباب مختلفة، فلم يُسجل له منجزات تطويرية تُذكر، أو برامج فاعلة تلامس تطلعاتنا المشرقة في إستراتيجيتنا الوطنية، بما حوته من أولويات وأهداف أو ممكنات وإستراتيجيات تخدم تحقيق تلك التطلعات.

إن التحديات التي تواجه تعليمنا والإخفاقات التي تلاحق مخرجاتنا التعليمية، وما تواجهه من إشكالات وعقبات في سوق العمل القائم بمنظومته الحالية؛ تدفعنا -كمواطنين- إلى التساؤل: ماذا نريد من تعليمنا؟ كيف يمكن للتعليم أن يسهم فعليّا في النهوض بمسيرتنا الوطنية؟ كيف يمكننا أن نرتقي بمخرجاتنا التعليمية على كل مستوياتها؟ كيف يمكن لمخرجاتنا معالجة تحدياتنا الوطنية المختلفة؟ لماذا مخرجاتنا الأولى كان كثير منها -وما زال- قادرا على إدارة دفة الأمور وتحمل مسؤوليات ما يوكل إليها من مهام، بمستوى أفضل من بعض المخرجات المعاصرة؟! لماذا كان الأداء أفضل، والعطاء أكثر جدية والتزاما بالجودة في إطار المعايير والتقييم آنذاك؟

هناك كثير من التفسيرات التي لا يمكننا إغفالها عند محاولة تقييم واقعنا التعليمي اليوم، مقارنة بمخرجاتنا السابقة، والتي يمكن اختزالها في روح الجدية والالتزام والطموح لمستقبل واعد بالنسبة للأجيال السابقة، وذلك في إطار بيئة وطنية محفزة وقطاعات أعمال جاذبة وآمنة، بل ومطمئنة بفرص عمل متاحة، وفي ظل متطلبات وإمكانات علمية ومادية محدودة، تناسب ذلك العصر ببساطة معطياته وتطلعاته آنذاك، وبعيدا عن تعقيدات سوق العمل اليوم، علاوة على ضآلة مجالات اللهو والانشغال الفكري الذي تزامن مع التقدم التكنولوجي، وتقدم وسائل الاتصال والتقنية الحديثة التي استحوذت على عقول وأفكار الجيل الحالي كما سرقت أوقاته.

ومن جهة أخرى، فإن تطور محتوى ووسائل التعليم الحديث، وتزايد متطلباته التربوية والمادية والتقنية على المستوى المؤسسي والمجتمعي والفردي؛ أصبح يشكل ضغطا على درجة الرضا عن مستوى توفير المتطلبات ومعايير التنفيذ ومؤشرات التقييم، بمعنى أن المتطلبات المتوقعة أو المنتظرة من المؤسسة التعليمية لدرجة الاستعداد والتمكن التربوي والتعليمي والمؤسسي الآن، تفوق بكثير ما كان سابقا، وما كان مقبولا بمتطلباته وإنجازاته في حقبة سابقة، أصبح اليوم غير مقبول ولا يمكنه تحقيق إنجازات تُذكر في ظل الإمكانات القائمة، لتغير الزمن بمتطلباته العلمية والتقنية وبموارده البشرية والمادية، والتي لا بد وأن تحاكي أو تناسب ما يعيشه العالم حولنا من تطورات ومنجزات معاصرة.

يتضمن التعليم في منظومته كيانا مؤسسيا وموارد بشرية وإمكانات مادية ومحتوى علميا، وحتى يمكن تطوير التعليم بجميع مكوناته، لا بد أن يشمل التطوير والتغيير جميع منظومته بما يتضمنه كل منها من تفاصيل وجزئيات تابعة، ويمكن إيجاز بعض أساسيات التطوير في التالي:

1 - تحديث وتطوير جميع محتوى الكيان المؤسسي القائم على إدارة العملية التعليمية بمستوياته المختلفة الرئيسية والفرعية، وبما يتضمنه الكيان من أنظمة وسياسات وفلسفة وقوانين وتشريعات وموارد بشرية وإمكانات مالية ملائمة.

2 - العمل على النهوض بجميع الموارد البشرية التعليمية والإدارية القائمة في الكيان التعليمي «المدرسة، الجامعة»، بما يتواءم مع المتطلبات التربوية والتعليمية الحديثة، ويكون ذلك بالتدريب والتأهيل، والشفافية في توخي الانتقائية للصفوة من النخبة في تعيين المعلمين والمعلمات لجميع المراحل التعليمية، وبما فيها أعضاء هيئة التدريس في الجامعات والقيادات الإدارية جميعها.

3 - الحرص على توفير البنية التحتية المادية الأساسية الملائمة، لتمكين العملية التعليمية من النجاح، وذلك يتضمن البناء المدرسي و«الجامعي» بجميع متطلباته البنيوية ومرفقاته التابعة ومستلزمات العملية التعليمية، من وسائل وتقنية وبيئة وفصول ومعامل.

4 - الارتقاء بمضمون المحتوى العلمي، وتطوير مادته ومنهجه وأسلوب تدريسه وآلية تقييمه، بما يسهم في تجديد المعلومات التي تحتاج إلى ذلك، وتحديث البيانات والأفكار بما يواكب متطلبات العصر، والحد من التكرار الموجود في المحتوى العلمي، واستبداله بمعلومات جديدة مفتقدة، خلال مقررات تنمي روح الإبداع والابتكار، وتتضمن التدريب العملي، بما يسهم بدوره في بناء العقول والشخصيات.

وفي إطار تلك المتطلبات الأساسية لتطوير التعليم، نحتاج إلى ثورة حقيقية في جميع مكونات المنظومة التعليمية، بعيدا عن الاستعراض والتصريحات الجوفاء والفعاليات التي لا تسمن ولا تغني من جوع. نحتاج إلى تفعيل وتنفيذ الأولويات في جميع المنظومة وبشكل متزامن، دون الالتفات إلى جوانب ثانوية وبرامج ومبادرات بعيدة عن المرحلة التي يعيشها تعليمنا، والتي لا نجني منها سوى جهود ضائعة ونفقات مهدرة وزمن يستهلكنا بدلا من أن نستهلكه.

في التعليم، لا يمكننا القفز فوق مراحل قاعدية لم يتم إنجازها، أو اختزال جوانب أساسية أو تهميشها من المسيرة المنتظمة، لأننا بذلك لن نحقق النتائج المرجوة، ولا يمكننا تحقيق نقلة نوعية في تعليمنا المستهدف إلا بجودة التعليم في جميع منظومته، وبذلك تتفوق مخرجاتنا ويتميز عطاؤها بالمشاركة في بناء حاضرنا ومستقبل أبنائنا، وبجودة المخرجات يكون الطبيب المتميز والمهندس الناجح والإداري القادر على إدارة دفة المؤسسات بالشكل الصحيح، بعيدا عن الفساد والمحسوبية، وكذلك يكون الاقتصادي والمحاسب والصيدلي والممرض والمعلم، لأن جميع من يتحمل مسؤولية العمل والعطاء الوطني هو من إفرازات التعليم.

وبجودة منظومة التعليم يمكننا تصحيح واقعنا التنموي، وبه نستطيع تخطي ما نواجهه من تحديات اجتماعية واقتصادية مختلفة، وبالتعليم تنهض الأمم وبه تُبنى الأوطان وتزدهر الشعوب.