بعد تفوق الولايات المتحدة على الاتحاد السوفيتي في إطار ما عُرف بالحرب الباردة، وتفردها بالقوة السياسية والاقتصادية، أصبح بعض خبراء السياسة والاقتصاد يتحدثون عن مفاهيم كنهاية التاريخ والعالم أحادي القطب، والذي يعني أن الولايات المتحدة هي المتحكم الأول في مجريات الأحداث العالمية على المستويات الاقتصادية والسياسية كافة.

 لكن هذا التفرد بالقوة لم يدم طويلا، حيث برزت الصين بقوتها الاقتصادية المتسارعة بعد انخراطها في إستراتيجية الإصلاح والانفتاح الاقتصادي التي قامت بجني ثمارها اليوم، بعدما بدأت تلعب دورا اقتصاديا عالميا هاما، وخصوصا بعد انطلاق الأزمة المالية عام 2008 من الولايات المتحدة التي تعد قلب الرأسمالية، حيث برزت الصين في ذروة هذه الأزمة أول مقرض للولايات المتحدة لتجاوز أزمتها، محدثة بذلك نوعا من التوازنات الجديدة، ومعلنة بداية فصل جديد من العلاقات تفرض على كل طرف أن يأخذ في الاعتبار الطرف الآخر.

 فلا يخفى على أحد اليوم التسابق المحموم بين الولايات والصين على المرتبة الأولى في المجال الاقتصادي، وبعض المحللين السياسيين الغربيين يعتقد بأن انتزاع الصين للمرتبة الأولى أصبح مسألة وقت وفق كثير من المعطيات المتاحة، مع أن الصين دائما ما تقدم نفسها بأسلوب يرتكز على عدم التباهي وتسعى لتهدئة الهواجس حول قوة الصين المتنامية حتى لا تثير حفيظة الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة.

 تباينت وجهات النظر الأميركية حول الصين، بين من يهول من قوتها ويحذر من تنامي هيمنتها على الاقتصاد العالمي، وبين من يهون من شأنها ويستهين بإمكانياتها على أن تكون القوى العظمى الأولى على المستوى العالمي، وأحد هؤلاء جورج فريدمان الخبير الإستراتيجي والرئيس التنفيذي لشركة ستراتفور والمشهور بتحليلاته وتنبؤاته للمستقبل السياسي للدول، الذي يرى أن الصين لن تكون قوة عظمى في المستقبل، بل إنه لا يعتقد بأن الصين لن تستطيع الصمود كدولة موحدة في المستقبل، فهو يرى بأن الصين محاطة بالجبال والتضاريس الطبيعية الصعبة التي تعزلها عن بقية العالم، إضافة للضعف الذي تعانيه في قدراتها البحرية.

 فكما يرى فريدمان عبر تنبؤاته الغريبة بأن الصين تعاني من دورات اقتصادية وفترات ارتخاء ستؤدي لحدوث صراعات داخلية، من مسبباتها الأخرى تركز الثروة في المناطق المحاذية للسواحل، وكل هذه العوامل ستقلل من أهميتها الإستراتيجية.

 ولكن هل هذه التنبؤات منطقية وتعكس المستقبل الصيني بالفعل؟ وهل الموقع الجغرافي للصين سيقف حاجزا أمام الطموحات الصينية كما يرى فريدمان؟ لا شك بأن تنبؤات فريدمان واستهانته بقدرات الصين غير مبررة بشكل كاف، فالصين تسعى ومن خلال موقعها الاقتصادي الجديد إلى خلق شروط جديدة للاستقرار في منطقتها المحيطة لتضمن شبكة من التواصل الاقتصادي بين المكونات الآسيوية عبر إستراتيجية طريق الحرير الجديد، فهي تطرح برامج مواصلات ذكية وطموحة مع أقطار آسيا ومع أوروبا عبر آسيا من خلال ما توصلت له من تقدم في مجال التقنية الحديثة.

 فمن المؤكد أن الصين ترمم نقاط ضعفها بسرعة هائلة عبر خلق شبكة مواصلات برية هائلة وعنكبوتية تستعين بالقطارات فائقة السرعة، تجعل من مسألة عزلتها الجغرافية التي يصر عليها فريدمان من القضايا القديمة التي عفى عليها الزمن، وهذه الحلول التي خلقتها الصين وجعلتها تفرض نفسها كقوة عظمى مؤثرة تلازمها مشاكل اقتصادية عميقة بدأت تطفو على السطح في دول الاتحاد الأوروبي، وجعلت العالم الغربي يعيش حقبة تاريخية جديدة يطلق عليها عصر ما بعد الصناعة.

 ومن وجهات النظر المعاكسة لوجهة نظر جورج فريدمان ما صرح به وزير الخارجية الأميركي الأسبق والسياسي الشهير هنري كيسنجر، الذي يعتبره البعض أحد دعائم اللوبي الصيني داخل أروقة صنع القرار الأميركي. وتنبؤات كيسنجر واحدة من تنبؤات عدة من خبراء سياسيين واقتصاديين يرون بأن الصين قوة عالمية جديدة في المستقبل، فهي تمتلك اقتصادا قويا ومتينا يتميز بالارتفاع المتزايد في الثلاثين سنة الأخيرة، مما يؤهلها لأن تصنع توازنات جديدة في ميزان القوى العالمية اليوم.

 يقول كيسنجر في كتابه النظام العالمي: «أما من الجانب الأميركي فإن الخوف هو أن الصين المتنامية ستعمد منهجيا إلى تقويض التفوق الأميركي، وصولا، إذن، إلى تقويض أمن أميركا. ثمة فئات مهمة ترى الصين عازمة، مثلها مثل الاتحاد السوفيتي أيام الحرب الباردة، على بلوغ السيطرة العسكرية كما الاقتصادية على جميع الأقاليم المحيطة، وصولا، آخر المطاف، إلى الهيمنة».

 إن تركيبة القيادة الصينية كما أشار كيسنجر تعكس تطور الصين ليس فقط في المشاركة بل يتجاوزه نحو صوغ شؤون كوكب الأرض، وهذا ما يجعل الجانب الصيني يعتقد بأن كل تحرك من الجانب الأميركي يعد نوعا من التصميم على شل حركة الصين الصاعدة، مع رؤية التأييد الأميركي لحقوق الإنسان مشروعا سياسيا يهدف إلى تقويض البنية السياسية الداخلية للصين.

 وفي كتاب النظام العالمي تتضح وجهة نظر كيسنجر المؤيدة لوجود الصين كقوة موازية للولايات المتحدة، وقد اختزل هذه الرؤية في قوله «كثيرون قد يرون الولايات المتحدة قوة عظمى تجاوزت قمتها. غير أن بين القيادة الصينية ثمة اعتراف صريح بأن الولايات المتحدة ستحتفظ بقدر مهم من القدرة القيادية إلى المستقبل المنظور. وجوهر إنشاء نظام عالمي بناء هو أن أي بلد بمفرده، بما في ذلك الصين أو الولايات المتحدة، ليس في وضع يمكنه من أن يضطلع لوحده بدور قيادة العالم».