عُرفت نجران -منذ قديم الأزل- بأنها أرض التعدد والثراء والتنوع، وامتازت باحتضانها كل مكونات المجتمع، ورحابة صدر سكانها الذين يتعايشون مع جميع الأفكار. لذلك، كانت خطوة موفقة من الإخوة القائمين على مركز الملك  عبدالعزيز للحوار الوطني، أن يكون فرع المركز بنجران من أوائل الفروع التي تم تأسيسها، فقد تجلّت رغبة المجتمع النجراني في دعم وتشجيع الحوار بذلك الحشد الكبير الذي غصت به جنبات النادي الأدبي عند إعلان تدشين المركز، واللقاء الذي عقد في 8 شعبان «العام  الماضي»، تحت عنوان «مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني .. رؤية مستقبلية».

لم يكن ذلك الحدث مجرد لقاء عادي أو عابر، فقد كان شفافا وصريحا، وأكد تعطش مجتمع نجران لإثراء الحوار الوطني، ورغبته في إثراء الواقع الثقافي والاجتماعي بما يعود خيرا على المجتمع، لا سيما بعد تبرع أحد أبناء المنطقة بصيانة وتأثيث المقر الذي تم تخصيصه للمركز، والذي قدمته إحدى الجهات الحكومية.

ينظم المركز حاليا فعاليات أسبوع التلاحم الوطني، والتي تستمر من 13 إلى 16 يناير الجاري، ويناقش دور مؤسسات التنمية الاجتماعية والجمعيات غير الربحية في حماية النسيج المجتمعي، من خلال ترسيخ قيم التعايش والتلاحم الوطني ومناقشة كثير من القضايا التي تشكل أولوية كبيرة في هذا العصر الذي ازدادت فيه الحاجة إلى تقوية اللحمة الوطنية، والتصدي للتحديات التي تواجهها بلادنا، ومحاولات بعض الجهات المشبوهة التي امتلأت صدورها بالغل والحقد، بعد أن رأوا المملكة تتقدم من نجاح إلى آخر، وتنعم بالاستقرار والأمن والسكينة، وتحقق كل يوم مكسبا جديدا، وتقطع خطوات كبيرة في سبيل الوصول إلى غاياتها المرسومة وأهدافها المنشودة، رغم ما تمر به المنطقة العربية من ظروف دقيقة، وما تشهده بعض دولها من فتن وحروب وكوارث، وكأن هؤلاء يستكثرون على هذه البلاد التي هي قبلة المسلمين أن تنعم بالأمن والأمان، وأن يجني شعبها ثمار السياسات الرشيدة التي تسير عليها منذ توحيدها على يد المغفور له -بإذن الله- الملك المؤسس

عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود.

وقد أولى ملوك المملكة -منذ تأسيسها- أهمية قصوى لتعزيز التلاحم الوطني، وجعلوه أولوية مقدمة على ما سواه، قناعة منهم بأنه أولى اللبنات التي تقوم عليها المجتمعات المتحضرة، وأنه لا سبيل إلى تحقيق التطور إلا عبر تقوية اللحمة الوطنية، وتعزيز الجبهة الداخلية، وحينها لن يستطيع مغامر أو متطاول النيل منا أو مما حققناه من نجاحات.

لذلك، أصبح كافة أبناء المجتمع على قدم سواء، متساوون في الحقوق والواجبات، دون تمييز على أي دوافع مناطقية أو عرقية أو مذهبية، وظل معيار التفاضل  الوحيد هو المواطنة الصالحة، ومقدار الجهد الذي يبذل لمصلحة الوطن والمواطن. وبذلك تمكنت القيادة الحكيمة الحريصة على مصالح شعبها، بحسن سياستها، ورؤيتها الثاقبة توحيد قلوب أبناء البلاد، وصهرها في بوتقة واحدة، ولذلك تجنبت المملكة -والحمد لله- كثيرا من النعرات والإشكالات التي نشاهدها -للأسف- في كثير من الدول، وباتت الوطنية الصادقة ميدانا يتنافس  فيه المتنافسون في حب بلادهم.

ربما يعتقد البعض أن مهمة تعزيز التلاحم الوطني يمكن إنجازها عبر الكلمات الرنانة أو الخطب الحماسية، وهم في ذلك واهمون، لأنها قضية بالغة الأهمية، لا يمكن إكمالها بالصورة المطلوبة، إلا إذا بدأ ذلك في سن مبكرة.

فمعاني الوطنية والارتباط بالمجتمع تبدأ في الرسوخ داخل الوجدان منذ أيام الطفولة الأولى، عبر الأسرة التي هي نواة المجتمع الرئيسة، فعلينا أن نُعلّم أبناءنا تلك المعاني النبيلة، وأن نساعدهم على تعلم احترام حق الآخرين في التفكير والاختلاف، والبعد عن العنف والإقصاء.

وكذلك يقع على عاتق المعلمين والعاملين في المؤسسات التربوية دورٌ لا يقل أهمية عن دور الأسرة، فهم مسؤولون أيضا عن تنشئة طلابهم تنشئة سوية، وبذلك يسهمون -بصورة كبيرة- في عملية التنشئة الاجتماعية التي تنقل القيم المتعددة إلى الفرد. ويساعدون في نشر وغرس وتعزيز القيم المرتبطة بالتربية الوطنية مثل: قيم التسامح، والعدالة واحترام الآخر، والسلام، والحقوق والواجبات، وغير ذلك من القيم النبيلة، وهذه الأدوار نفسها تتشارك في مهمة أدائها الأندية الرياضية والمساجد ووسائل الإعلام، وغير ذلك من مؤسسات المجتمع المدني، التي هي  الرابط والوسيط بين المجتمع بكل فئاته وشرائحه المختلفة وبين الدولة، لإيجاد أكبر قدر من التناغم داخل المجتمع، وذلك من خلال الاستفادة المتبادلة بين كل الأطراف من الآخر، خاصة في تلك القضايا ذات الاهتمام المشترك.

ولا أخال أني بحاجة إلى التذكير بأننا -كسعوديين- يتعاظم لدينا الإحساس الصادق بأننا إخوة، يضمنا وطن نعتز جميعا بالانتماء إليه، والعيش تحت سمائه. أكرمنا الله بقيادة رشيدة، تعتمد المواطنة الصالحة أساسا للتعامل، تعطي كل ذي حق حقه، وهذه كلها قواسم مشتركة، تجمعنا ولا تفرقنا، وتعصمنا من الزلل، وتبعدنا عن الفرقة والتشتت.

كلنا أبناء هذه البلاد المباركة، نحملها في دواخلنا فخرا، ونضعها في حدقات عيوننا وطنا نقدمه على ما سواه، ونضحي لأجل رفعته وتطوره بالغالي والنفيس.

وإن كان من إشادة وكلمة شكر فإني أوجهها لصاحب السمو الأمير جلوي بن عبد العزيز بن مساعد، أمير منطقة نجران، الذي يعقد أسبوع التلاحم الوطني، تحت رعايته، فقد أولى هذا الموضوع جل اهتمامه ووضعها نصب عينيه، وسعي سمو نائبه صاحب السمو الملكي الامير تركي بن هذلول إلى تعزيزها وترسيخها، واستطاعا – بعد معرفتهما بطبيعة نجران ومزايا إنسانها– أن يظهرا أفضل ما في المنطقة، فاستحقا إعجاب مواطنيها وحازا تقديرهم واحترامهم.