لفهم أي مجتمع علينا دراسة وتحليل ما يميزه إن كان على مستوى التفكير أو المحفز أو التركيبة العقائدية أو السياسية، فالمجتمعات بطبيعتها متحركة، أما تلك الراكدة التي لا تستطيع أن تواكب الزمن تبقى في محلها لا تؤثر في الحضارة وتبقى للأبد خارجها.

منذ أن قدمت إلى أميركا تكشّف لي كثير من الأمور التي كنت أحمل في مخيلتي نقيضاتها، إما بسبب الكسل في تنويع مصادر المعلومات التي كانت دون أن أدرك تنقل لنا بانتقاء ما يحلو لها، أو بسبب قصوري في محاولة الاكتشاف والفهم خارج إطار ما اعتدت عليه من محددات، طمعا في الإندماج أو بسبب الخوف من مجرد التفكير خارج الصندوق، لكي لا ينظر إلي باعتباري كمن جانب الجماعة وشذ عنهم.

فمثلا قبل قدومي إلى واشنطن كنت أعتقد أن المؤمنين بنظرية المؤامرة «Truthers» هم من المجانين المهلوسين فقط، وأنهم في هذه البلاد يعدون قلة، وليس لهم تواجد ملموس بين الناس، إلا أن المفاجأة كانت كبيرة عندما لاحظت أن أعدادهم في تزايد، ومنهم أساتذة جامعات وباحثون وسياسيون وإعلاميون مرموقون، فنظرة الشك فيما تقوله وتفعله الطبقة السياسية هنا أصبح سمة كثيرين، خصوصاً في هذه العاصمة ومحيطها، حيث كل شيء هنا يتحدث سياسة ويتجادل حول ترمب.

من الحقائق التي بينها تقرير صادر في أواخر ديسمبر الماضي عن مركز Pew للأبحاث حول حقائق أميركية لعام 2018، والتي قد تساعد المهتم في فهم هذا المجتمع المتنوع، هو أن الشباب الأميركي مثلا أكثر قدرة من أولياء أمورهم في التفريق ما بين ما تنقله وسائل الإعلام من أخبار حقيقية وبين ما تنقله من أخبار ملفقة ومضللة، كما أن 68% من الأميركيين يشعرون بالإنهاك المعنوي من كمية الأخبار المتداولة بحكم محاصرة الأحاديث والتحليلات والنقاشات التي تحيط بهم في جميع الوسائل الإعلامية التي يستهلكونها.

أما فيما يتعلق بجيل المستقبل فإن 57% من المراهقين ممن هم بين سن (13-17) يشعرون بالخوف من احتمالية حدوث عملية إطلاق نار في المدرسة التي يتعلمون فيها، وهو ذات المعدل الذي يشعر به أولياء أمورهم، كما أن 59 % من المراهقين سبق لهم أن تعرضوا للإيذاء الإلكتروني، إلى جانب أن مواليد ما يعرف بجيل الـ(Z) وهم البالغة أعمالهم (6-21) يمضون بثبات لكي يصبحوا أكثر الأجيال تنوعا عرقيا في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.

وفي سياق الحملة ذائعة الصيت التي نظمت لمحاربة وكشف المتحرشين جنسيا في سوق العمل، وفي مجالات الإعلام والفن والسياسة، كشفت الدراسة أن 59% من النساء في أميركا سبق لهن أن تعرضن للتحرش الجنسي خصوصا النساء الحاصلات على تعليم جامعي.

أما فيما يخص بالإيمانيات فهي كما تشير عدد من الإحصاءات إلى أنه لم يتغير بخصوصها كثير عما كان عليه الأمر في السابق، باستثناء وجود تنقل ملموس للناس بين الأديان، فمن جهة تشير الدراسة إلى أن تسعة من بين كل عشرة أميركيين يؤمنون بوجود قوة أعلى «إله» إلا أن أغلبية ضئيلة نسبتها 56% لا زالوا مؤمنين بالله، كما هو مذكور في التوراة والإنجيل، في وقت تشير دراسة سابقة لنفس المعهد إلى أن 42% من البالغين في أميركا سبق لهم أن غيروا دينهم أو طائفتهم، و34% من الأميركيين يصنفون أنفسهم بأنهم ينتمون اليوم لدين يختلف عن الدين الذي تم تربيتهم عليه.

هذه بعض الملامح التي ترسم للقارئ الكريم واقع المجتمع الأميركي اليوم، والتي بالتمعن فيها يمكن لنا أن نخرج باستنتاجات تختلف عن تلك التي يحاول البعض تلقيننا إياها، وهنا لا أقصد فقط من يحاول أن يشيطن هذا المجتمع بل حتى هؤلاء الذين يريدون تصويره على أنه جنة الله في الأرض، فواقع المجتمعات لا يمكن النظر إليه من منطلق العاطفة أو وفق التقلبات السياسية أو التوجيه المؤقت أو حتى المنطق الشعبوي والتراثي، بل علينا أن نحترم عقولنا عندما نحكم على أمر ما، وعلينا أن نحكم منطقنا قبل أن نتبنى موقفا، هذا بالطبع إن كنا نريد الفهم والحكم العادل والتعاطي العلمي، أما إن كان المبتغى هو إيجاد عبارات رنانة تلهب المستمع وتضمن عدم الشذوذ عن رأي المحيط، فلمن رغب ذلك أن يستعين بسواليف كشتات البر أو المحاضرات واللقاءات التلفزيونية التي تمنطق الأمور وفق منهج الصحافة الصفراء.