المتأمل في القرآن الكريم لا يستطيع أن يتجاوز آيات التلاقي العالمي، وأقصد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، وكلها آيات أتت لتؤكد أن الأخوة الإنسانية أخوة عامة، بحكم كون الكل آدميين وبشرا، وأن الفرد منهم مستخلف في هذه الدنيا، مع أخيه الإنسان، ولا سبيل لهما إلا في المشي بقيم مشتركة، تجمعهم معا.

القيم أنواع، منها ما هو متعلق بالدين، ومنها ما هو متعلق بالأخلاق، والديني يتمثل في الإيمان بأنواعه، كذا العبادات المختلفة، والأخلاقي متمثل في مكارم الأخلاق، وهذه لا خلاف فيها بين الديانات السماوية وغيرها، وما من نبي مرسل إلا وقد عني بها وبنشرها، وفي هذا السبيل يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»، والأخلاق هنا يدخل في صميمها كل ما يأتي على بال الإنسان من عدل ووفاء وطهر وعفاف وإنصاف ورحمة ومودة، وغير ذلك مما يعد ضمانة على شيوع السلام، وتقليل أو منع الخصام، وعدم الكذب والغش وسواهما من مساوئ الأخلاق.

العالم اليوم في أمس الحاجة إلى أن يعترف شرقه وغربه، وشماله وجنوبه، بالخصوصيات الثقافية واللغوية والحضارية لكل مجتمع من المجتمعات، وأن يكون التواصل بين الجميع على أساس من هذا التمايز، ومن هذه التعددية، وعلى أساس العدالة والمساواة، مع الاتفاق التام على ضرورة الإصرار على عدم محو الفوارق، أو حتى تجاهلها بين الناس، فلكل قيمه وأخلاقه وإيمانه وثقافته، مهما كانت مختلفة عن الآخر، أو مناقضة له، ولا يصح نفي الآخر، أو رفضه، أو احتقار ثقافته أو معتقده، وفي هذا الأمر بالتحديد يقول المولى -سبحانه وتعالى- في سورة الأنعام: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون}، فرغم الاعتقاد الذي يحمله المسلم عن عبادة غير الله، إلا أنه، جل جلاله، منع من شتم أي معبود غيره.

الإسلام في هذا السبيل قرر أمورا أخرى لا تقل في ضرورة التدبر فيها عما ذكرته سابقا، ومن ذلك قول الحق -سبحانه وتعالى- في سورة سبأ: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}، وهي آيات دالة بوضوح على أن ديننا في سبيل السلام والتعايش أوجب على الناس تفويض الأحكام لله تعالى، ولفت نظرنا جميعا إلى سنة التدافع، التي نص عليها قوله سبحانه: {..وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، فكل مكان يعبد فيه الله تعالى لا بد من الدفاع عن استمرارية وجوده، جنبا إلى جنب مع المساجد التي يعرفها ويرتادها المسلمون، والغرض دوما رفع اسم الله القوي العزيز.