تمر أميركا هذه الأيام -كما يعلم الجميع- بحالة من عدم الاستقرار السياسي، ناتجه عن حالة الاصطفاف الحزبي التي ولّدها -منذ عامين- وصول الرئيس غير التقليدي ترمب إلى الحكم.

فمن جانب، هناك محاولات لإلصاق تهم التواطؤ مع روسيا بالرئيس، ومن جانب آخر العمل في محاولة شيطنة هذا الرئيس الصدامي، المنقلب على كل الأسس التي اعتادت عليها أروقة القرار في واشنطن.

الحكومة -حتى كتابة هذه الأسطر- مغلقة بشكل جزئي، والصراع بين الرئيس والحزب الديمقراطي على أشده. فلا الرئيس يرغب في التنازل ولا الحزب المعارض يريد أن يظهر ضعيفا، والإعلام اليساري يشن الحملة تلو الحملة في محاولة لتفكيك خطاب الرئيس الذي يقولون إنه متناقض، واعتباره السبب الذي أوصل البلاد إلى هذه الحالة التي تعد الأطول في التاريخ الأميركي.

استطلاع رأي حديث لـQuinnipiac يظهر أن 56% من الأميركيين يلومون الرئيس والحزب الجمهوري على الإغلاق، بينما يرى 36% منهم أن السبب يعود إلى تعنّت الديمقراطيين. في وقت يرى 73% من الجمهوريين أن الإعلام الأميركي لا يفهمهم، ويرى 58% من الديمقراطيين أن الإعلام يفهمهم، وهي مقارنة تشير إلى أن هناك انفصالا بين الرئيس وقاعدته الانتخابية وبين الإعلام لمصلحة معارضيهم. فالخطاب الذي يُسيّر الرأي العام حتى الآن يَسِير في مصلحة المعارضة وضد الرئيس ومؤيديه.

ولكن، هل هذا الأمر سيستمر مع مرور الأيام واستمرار الإغلاق؟

ومَن المستفيد إن طال الأمر حتى يتحول هذا الإغلاق الذي يكلف الحكومة يوميا 200 مليون دولار من إشكال سياسي وصدام دستوري إلى أزمة اقتصادية حقيقية، يعيشها المواطن الأميركي ويتأثر بها شخصيا، وهو أمر مرشح حدوثه قريبا إن طال الإغلاق، وفق ما أشارت إليه عدد من التقارير والمؤشرات؟.

في تقديري، فإن المستفيد الأكبر سيكون الرئيس وحزبه، والسبب يكمن في أن المواطن العادي -بصرف النظر عن ميله الحزبي- سيصل إلى قناعة بأن طلب الرئيس تمويل بناء الجدار الحدودي، وتعنّت الديمقراطيين بحجب تمرير الموازنة، أصبح يصيبه شخصيا، وأن الأمر لا يستحق أن يدفع هو من ماله ومن حياته والتزاماته الثمن لحرب ستبدأ، يقتنع أنها لدواع سياسية وانتخابية يقوم بها الديمقراطيون لتعطيل عمل الرئيس، وإفشال وعوده التي قطعها على نفسه، وأقنعت قاعدته الانتخابية وأوصلته إلى كرسي الرئاسة.

في كلمة متلفزة، قبل أيام، قام الرئيس بتقديم عرض للديمقراطيين لحل إشكال إغلاق الحكومة، يحصل بموجبها على 800 مليون دولار كمساعدات إنسانية، و805 ملايين دولار لدعم جهود مراقبة الحدود، لمنع تهريب المخدرات، إضافة إلى زيادة أعداد القوى الأمنية والرقابية على الحدود الجنوبية بـ2750 عنصرا، إضافة إلى 75 قاضيا إضافيا لحل قضايا الهجرة المعلقة، إلى جانب 5,7 مليارات دولار التي يطالب بها لبناء الجدار أو الحاجز الحدودي موضع الخلاف، في وقت سيمنح الديمقراطيين بعض مطالبهم التي تتركز في منح حماية موسعة لـ3 سنوت لمن يسمون بالحاملين «أبناء المهاجرين غير الشرعيين»، إلى جانب منح المهاجرين غير الشرعيين حماية مؤقتة للبقاء في البلاد، وهو عرض رفضه الديمقراطيون قبل أن يعلنه أساسا، قائلين إنه عرض سبق أن قدمه لهم ورفضوه حينها، وأن الرئيس يريد أن يعلنه على المواطنين فقط، كي يظهر بأنه متعاون، وأنه يريد حل الإشكال ليكسب نقاطا انتخابية، في وقت تشير مصادر إلى أن الديمقراطيين في المقابل سيعرضون لحل الإشكال تقديم ما قيمته مليار دولار لتمويل إجراءات أمن الحدود الجنوبية، وذلك عبر مشروع قانون في الكونجرس لإعادة فتح الحكومة.

البعض يرى أن هذه المشكلة ستضاف إلى مشكلات الرئيس التي ستدفعه إلى خسارة الانتخابات المقبلة عام 2020، في وقت أرى أن الأمر ليس بهذه البساطة. فرغم سياسة الرئيس التي قد يصفها البعض بالارتجالية، إلا أنه من الناحية العملية يعمل على تحقيق وعوده الداخلية بشكل أساسي.

فالمواطن العادي لا يهتم كثيرا بالسياسة الخارجية والصفات الشخصية غير المعتادة، ومواقفه من حقوق الإنسان والمبادئ، حينما يكون الأمر متعلقا بالمفاضلة بين ذاك وبين لقمة عيشه، وتقليل الضرائب عليه، وتوفير عمل له، وضمان أمنه واستقراره. فشواهد التاريخ تقول إن 4 من آخر 5 رؤساء لأميركا تم التجديد لهم لرئاسة ثانية، على الرغم من التحديات التي واجهتهم خارجيا. ترمب يعي ذلك، ويراهن على حقيقة إعادة انتخاب أسلافه رغم التحديات الخارجية التي لم تؤثر على الناخب الأميركي.

فبوش الأب هو الرئيس الوحيد الذي لم يُعَدْ انتخابه ضمن هؤلاء الـ5، وهو الرجل الذي حقق انتصارا لأميركا في حرب الخليج الثانية، والذي أنسى به الأميركيين هزائم حرب فيتنام، إلا أن ذلك لم يشفع له إعادة الانتخاب، لفشله في تحقيق وعوده الانتخابية بعدم زيادة الضرائب عليهم.