الازدهار كلمة تشتمل على معاني التقدم والنمو، ومن مظاهره التطور الإيجابي في الاقتصاد والعمران والفنون والثقافة والآداب والعلاقات العامة. وهو ما تطمح إلى تحقيقه المجتمعات البشرية قاطبة على مر التاريخ.

وحيث إن الفرد هو المكوّن الأساسي للمجتمعات، فإن من أهم متطلبات النمو والازدهار المجتمعي هو الارتقاء بالتعليم بما يشمل التأهيل الأخلاقي والمهاري والعلمي. قال أرسطو: الحضارة تبدأ بتعليم الشباب.

وللتعليم مكانة مرموقة في ديننا القويم ونهضتنا الحضارية، فقد كانت {اقْرَأْ} أول كلمة نزلت في القرآن الكريم، لتأسيس منهج الدين الخاتم للبشرية. ولأهمية التعليم في بداية تأسيس المجتمع الإسلامي فقد جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- أسرى غزوة بدر يَفتدون أنفسهم بتعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة.

وهكذا بُنيت الحضارة الإسلامية حتى غدت الأُمّية في مجتمعاتنا شبه معدومة في الوقت الذي كانت نسبة الأميين في أوروبا تتجاوز 95% (بين القرن التاسع والثاني عشر ميلادي).

وما زالت الدراسات تثبت الارتباط الوثيق بين التعليم الجيد وتحقيق معدلات عالية للنمو والتقدم الحضاري.

تم تحليل بيانات الاختبارات الدولية القياسية في الرياضيات والعلوم للطلاب من 50 دولة خلال الفترة بين 1960 و2009، وأظهرت النتائج المنشورة في صحيفة وال ستريت جورنال، أن التقدم السريع الذي تحقق في بعض الدول مثل كوريا وتايوان وسنغافورة مرتبط بتحقيق طلابهم درجات عالية جدا، مما حقق لتلك الدول معدل نمو سنوي أعلى بحوالي 2% من المعدل الدولي. وفي الجانب الآخر تقبع الدول التي تعاني أنظمة تعليم ضعيفة، أعطت الدراسة مثالا بالفلبين وبيرو، فقد كانت درجات طلاب تلك الدول هي الأدنى، ومعدل النمو السنوي لتلك الدول أقل بحوالي 2% من المعدل الدولي.

وقد أظهر تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) أن تزويد كل طفل بالتعليم والمهارات اللازمة للمشاركة الكاملة في المجتمع من شأنه أن يعزز الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 28% سنويا في الدول منخفضة الدخل، و16% سنويا في الدول ذات الدخل المرتفع، وذلك على مدى الـ80 سنة القادمة.

بينما أظهرت دراسة أُجريت عام 2015 لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أن الأميركيين الذين حصلوا على درجة علمية متقدمة كانت فرصتهم بأن يصبحوا من أصحاب الملايين أفضل بـ50 مرة من أولئك الذين حصلوا على الشهادة الثانوية فقط. واحتمال أن يصبح شخص لا يحمل شهادة الثانوية مليونيرا هو 1 في 110، بينما كان الاحتمال 1 في 4.6 لحاملي الشهادة الجامعية، و1 في 2.6 لأصحاب الدراسات العليا.

وبالنسبة لنا كمسلمين، فإن التقدم الحضاري لا يستهدف النواحي المادية فقط، وإنما مهم أيضا الارتقاء بالسلوك وتنمية الروح لتكون الحضارة نافعة وصالحة لجميع نواحي الحياة المادية والروحية. لذلك فإن الارتباط وثيق بين نهضتنا ومدى تمسكنا بالعلم النافع في كافة المجالات، وعلى رأس ذلك علم السلوك والمعاملات الذي نستقيه من ديننا القويم الذي جاء رحمة للعالمين، بل إن ذلك من أهم واجبات الرسل عليهم السلام جميعا {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}، وجاء الأمر بطلبه للنبي، صلى الله عليه وسلم -وهو مَن هو في مَكانته وقُربِه من الخالق، عز وجل- {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.

وفي بلادنا الغالية، فقد حظيت ميزانياتنا المتتالية بتخصيص مبالغ ضخمة لقطاع التعليم، مما يؤكد باستمرار على إدراك ولاة الأمر -رعاهم الله- أهمية التعليم في تحقيق النهضة والازدهار للوطن والمواطن. والأمل معقود -بإذن الله تعالى- في القيادة الجديدة لوزارة التعليم لاستثمار ذلك الدعم السخي في بناء منظومة تعليم وتأهيل عالية الكفاءة، متوافقة مع متطلبات العصر الحديث وتخدم توجّهنا في المشاريع المستقبلية (المنظورة وغير المنظورة)، لتأهيل وقود الحضارة (البَشَر) على أفضل ما يُمكن أخلاقيا ومهاريا وعلميا.