لغطٌ كثير عجّت به -خلال الأيام الماضية- وسائل التواصل الاجتماعي، وتناقلته الصحف ومواقع الإنترنت، حول قصة الفتاة السعودية رهف القنون التي هربت من أسرتها بينما كانت تقضي إجازة منتصف العام الدراسي برفقتها في الكويت، وطلبها حق اللجوء في أستراليا أو أي دولة أوروبية.

ورغم أن القضية تبدو في ظاهرها -للوهلة الأولى- وكأنها قضية عادية، إلا أن هناك كثيرا من الأدلة تشير إلى غير ذلك، وتؤكد وجود أصابع خفية تقف وراء إغواء الفتاة التي لم تتجاوز الـ18 من العمر، ودفعتها إلى تلك الخطوة، بل وأملت عليها كل الخطوات التي اتبعتها.

الدلالة على ذلك تكمن في عدة جوانب، أولها: التغريدة التي فجّرت الأحداث، عندما طلبت الفتاة حق اللجوء، وأعلنت قصتها على الملأ.

فنظرة سريعة إلى الكلمات التي حوتها تلك التغريدة، واللغة القانونية السليمة التي استُخدمت فيها تشير بوضوح إلى أن هناك من تولى كتابتها، وطلب من الفتاة مجرد بثها على حسابها، فمن أين لفتاة لم تتجاوز سن الطفولة الإلمام بتلك الاتفاقيات والبروتوكولات المتعلقة بقضايا اللجوء؟.

كذلك، فإن والد الفتاة وأسرتها ومعارفها أكدوا أنها لم تتعرض لأي تعنيف أو تضييق، رغم ما كان يبدر منها أحيانا من آراء تتصادم مع الموروث الاجتماعي والديني. فقد كان المحيطون بها ينظرون إلى ذلك على أنه من التجاوزات التي تبدر من بعض الشباب عند مرورهم بفترة المراهقة والبلوغ، كما لم يُعرَف عن والدها الفاضل الميل إلى التعنت أو الغلو، بل عُرف بالانفتاح وسعة الأفق والثقافة الواسعة.

كذلك يثير وصول الفتاة المفاجئ إلى بانكوك كثيرا من الأسئلة، فمن أين حصلت على تذكرة السفر؟ ومن الذي تولى توصيلها إلى المطار بعد أن غافلت عائلتها؟ وكيف امتلكت أصلا الجرأة على القيام بتلك الخطوة المتهورة؟

وهو ما يرفع احتمال وجود أشخاص كانوا يتابعونها أولا بأول، ويبلغونها بالخطوات التي عليها القيام بها.

بعيدا عن كل ذلك، يرتفع السؤال الكبير عن السر وراء الاهتمام البالغ الذي أبدته السلطات الكندية بتلك الفتاة الهاربة، ومسارعتها إلى منحها حق اللجوء، رغم أنها لم تطلب أصلا اللجوء من سلطات أوتاوا، بل طلبته من أستراليا وكانت تخطط للوصول إلى سيدني، لكن حكومة رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، تبرعت وسارعت من تلقاء نفسها إلى تبني القضية، وعرضت على الفتاة اللجوء على أراضيها. ليس هذا فحسب، بل إن وزيرة الخارجية ألغت كل ارتباطاتها وتجاهلت مهامها الجسيمة، وكانت بنفسها على رأس مستقبليها. اهتمت كندا بتنفيذ مخططها الذي يصب في خانة الكيد السياسي، وتجاهلت أن ذلك يحرم والدين من ابنتهما، وتسبب في إبعاد طفلة عن حضن والدتها التي تذرف عليها الدموع، وأحزنت أطفالا صغارا ما زالت أعينهم تبحث عن إجابة تقنعهم بدوافع اختفاء أختهم ومواعيد عودتها.

كندا التي تجاهلت عشرات الآلاف من طلبات اللجوء السياسي التي تقدم بها اللاجئون السوريون واليمنيون، من بينهم نساء وأطفال وشيوخ، فرقتهم الحروب التي تعصف ببلادهم، وشتت شملهم الأزمات الإنسانية، وباعدت بينهم وبين أقاربهم وأرضهم وأوطانهم. لم تتجاوب كندا مع توسلات الفتاة اليمنية ندى علي، ذات القضية العادلة، ولم تتعاطف مع دموعها التي انسابت على وجهها وهي تطالب بمنحها حق اللجوء منذ عامين، دون جدوى، وتمكينها من رؤية والدتها. لم يطرف لمسؤولي أوتاوا جفن، ولم تتأثر «نفسياتهم» بمناظر الموت والدمار التي تحملها شاشات الفضائيات -يوميا- للمهاجرين الذين تتقطع بهم السبل وسط البحار والمحيطات، وتغرق مراكبهم البائسة في عرض البحر، وهم يطرقون أبواب ما يسمى «العالم الأول»، ورغم ذلك تسارع قيادتها -على أعلى مستوياتها- لاحتضان مراهقة هاربة من أسرتها لأسباب عائلية، وتمنحها حق اللجوء دون أن تطلبه، وتعقد لها المؤتمرات الصحفية برفقة وزيرة الخارجية، لا لشيء إلا لمجرد الكيد السياسي، ومحاولة تشويه صورة المملكة التي رفضت التدخل في شؤونها الداخلية، وتمسّكت بسيادتها على أرضها، وقطعت -بكل حزم- الأيادي التي حاولت أن تمتد إليها بسوء.

ومما يؤسف له، أن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، سارت على النهج الكندي نفسه، وأبدت اهتماما غير مبرر بمزاعم الفتاة الهاربة، على الرغم من أن الخلافات العائلية موجودة في كثير من المجتمعات الدولية، وقامت بمنحها صفة لاجئ، وطالبت أستراليا باستضافتها، قبل أن تنبري كندا للقيام بهذه المهمة، فإذا كانت حكومة جاستن ترودو تريد ممارسة الكيد السياسي والمماحكات الإعلامية، فما المبرر للمنظمة الدولية التي يفترض بها وضع المعايير التي يتم عبرها تصنيف طالبي اللجوء، وتحديد مدى استحقاقهم لها من عدمه؟ لكن ذلك يؤكد حقيقة ما ظللنا نكرره باستمرار عن تراجع مكانة الأمم المتحدة في العالم، بعد أن تجاهلت أدوارها السامية، وتحولت إلى مجرد ورقة ضغط في أيدي بعض الدول والمنظمات.

إن كان هناك من إيجابية في هذه القضية المفتعلة، فهي تكمن في البيان اللافت الذي أصدرته الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، وتأكيدها على أن الأمر كله شأن عائلي بحت، ليست له أبعاد سياسية، وكان ينبغي علاجه داخل السعودية ووفق هذا الإطار، وأن الأنظمة المرعية في المملكة تمنع التعدي والتعنيف بحق الأبناء والفتيات، وأن الجهات المختصة على أتم استعداد لتلقي شكاوى من يتعرضن للتعنيف، وهي بادرة مميزة من الجمعية، التي ينتظر منها تفعيل أدواتها، وبذل مزيد من الجهود لمعالجة بعض الظواهر الاجتماعية السالبة التي تطرأ بين الحين والآخر، وتبصير أفراد المجتمع بحقوقهم وواجباتهم، وأسماء وعناوين المؤسسات المختصة الحكومية وغير الحكومية التي تتولى الدفاع عنهم، وتحذيرهم من مكائد الجهات المعادية التي تحاول استغلالهم كأدوات ضد وطنهم وبلادهم، وبدء حملة غير تقليدية لجعل الثقافة الحقوقية جزءا أصيلا من ثقافة الأجيال المقبلة. فإذا أنجزنا تلك المهمة لن يضرنا كيد أوتاوا وأخواتها.