كعادة الجماعة الإرهابية (جماعة الإخوان المسلمين) حينما يصرح مسؤولٌ فيها بأمر ما ثم ينفيه آخر بعد مدة وجيزة، فإنما هو يؤكد الأمر أكثر، وبشكل أعمق، وكأنما هم بذلك يجعلون خطين لهم: إن نجح الأمر في الطريق الأول فهم قد صرحوا به أساسًا، وإن فشل التدبير والكيد «الكُبَّار» فهم نفوه ولا علاقة لهم به من أي باب أو أي وجه، ولا يلتفتون لأمر التناقض لاعتمادهم الشديد على الذاكرة السمكية للشعوب والأنظمة التي تنسى مكرهم وتعود إلى استئمانهم مرة بعد مرة وكرة بعد كرة، وأضرب على ذلك مثالًا بما أعلنته قيادات كبرى في الجماعة من تفويض صلاحيات محمود عزت القائم بأعمال مرشد الإخوان إلى إبراهيم منير أمين التنظيم الدولي والمقيم في لندن، ورغم انتشار هذه المعلومة داخل جماعة الإخوان وثباتها الأكيد، كما صرح بذلك عدد من قيادات الجماعة القُطريين مثل الدكتور محمد الحسن ولد الددو عضو التنظيم الدولي للجماعة، في لقاء مع أحمد منصور على قناة الجزيرة في عام 2016، إلا أن المتحدث الرسمي باسم الجماعة طلعت فهمي أصدر بيانًا يكذب هذا الأمر جملة وتفصيلا.

ومحمود عزت أو ثعلب الجماعة كما يطلق عليه هو أحد نواب مرشد الجماعة محمد بديع، والذي ارتأت الجماعة أنه الأنسب لتولي الأمر في مثل هذا الظرف الدقيق الذي تمر به، ومحمود هذا تلميذ مباشر لسيد قطب، ويعود له الفضل في حسم توجهات الجماعة لمصلحة القطبيين كمنهج وطريقة أداء، الأمر الذي حدا بالجماعة إلى إبعاد بعض أعضاء مكتب الإرشاد مثل: محمد حبيب، وعبدالمنعم أبوالفتوح (صاحب المداخلة الشهيرة مع السادات حينما كان طالبا)، وإدخال آخرين مثل: محمد بديع، وخيرت الشاطر.

وعلى كلٍ وبعيدًا عن الاستطراد، فبين هذه المعلومة (طبعًا هي قديمة نسبيًا بطبيعة الحال) وتكذيبها هناك حقيقة جلية، وهي أن أمر الجماعة وتدبيرها تشارك فيه القيادات المقيمة في لندن، وعلى رأسهم أمين التنظيم الدولي إبراهيم منير، وهو لب مقالنا اليوم، فمشاركة قيادات إخوانية من المقيمين في لندن في القرار الإخواني، ووجودهم داخل بريطانيا بكامل حريتهم، وعقد الإخوان اجتماعات مغلقة داخل بريطانيا، يطرح عددا من التساؤلات، عن العلاقة بين الإخوان وبريطانيا. وهل هذه العلاقة حديثة العهد، أم قديمة منذ نشأة الجماعة؟ ولماذا لا تزال بريطانيا ترفض إدراج الجماعة كمنظمة إرهابية حتى الآن؟ ولماذا تصر بريطانيا على إيواء عناصر الإخوان؟.

ولمقاربة الإجابة حول هذه التساؤلات، فإن العلاقة بين الإخوان وبريطانيا ابتداءً لم تكن حديثة العهد، أو جديدة، بل هي منذ نشأة الجماعة وحتى الآن، وصدرت في هذا الشأن كتب عربية وإنجليزية ترصد علاقة الجماعة وبريطانيا، أما حديثًا فتجلى ارتباط الجماعة بلندن، بعدما أصدرت حكومة لندن برئاسة تريزا ماي قرارا يتيح لعناصر الإخوان حق الحصول على اللجوء السياسي.

وبعد هذا القرار مباشرة استطاعت جماعة الإخوان عقد عدة مؤتمرات صحفية في الجامعات البريطانية أبرزها جامعتا لندن وأكسفورد، للدعوة إلى ما يسمونه بالعصيان المدني داخل مصر، وتم أيضًا عقد لقاء بين مكتب التنظيم الدولي وأعضاء لجنة الشؤون الخارجية بمجلس العموم البريطاني حول فكر جماعة الإخوان.

وعودة للحديث عن العلاقة التاريخية بين الإخوان ولندن، ففي عام 1936، دعا الإخوان المسلمون للجهاد ضد اليهود في فلسطين، وأرسلوا متطوعين هناك، واعتبرت جماعةُ الإخوان بريطانيا دولةً ظالمةً، ودعت لمقاومة الاحتلال البريطاني في تلك الفترة، والذي تنامى خاصة بعد تمرد فلسطين خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية.

 في بداية الأمر انتهجت بريطانيا إستراتيجية قمعية ضد تأليب الإخوان، خاصة بعد تحالفها مع القوى السياسية الأخرى، ولكن في الأربعينيات ومع مهادنة حكومة الملك فاروق لحسن البنا، بدأت بريطانيا في تمويل جماعة الإخوان بشكل رسمي منذ عام 1940، حيث رأى فاروق أنه من المفيد التحالف مع قوى سياسية أخرى، ضد الأحزاب السياسية العلمانية التي كان يمثلها حزب الوفد.

ويعد التحالف البريطاني مع الجماعات الإسلامية وبالأخص جماعة الإخوان المسلمين، أحد أركان السياسة البريطانية طويلة الأمد التي انتهجتها منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك لخلق أجيال جديدة من الإسلاميين واتخاذهم كحلفاء محتملين، كوسيلة لتوفير بديل لتحديات سياسية تظهر في الساحة وتعارض مصالحها، مثل تلك الناصرية والشيوعية.

 يقول طارق البشبيشي القيادي السابق بجماعة الإخوان «العلاقة بين الإخوان وبريطانيا ليست وليدة اليوم، بل هي علاقة ممتدة بدأت منذ اليوم الأول الذي أسس فيه حسن البنا تنظيم الإخوان في عشرينيات القرن العشرين، والذي لا يمكن أبدا أن ينكره أحد هو علاقة تأسيس التنظيم ببريطانيا».

ويضيف «البشيشي» في تصريحات لـ«اليوم السابع» «فنشأة التنظيم بدأت في الإسماعيلية حيث تواجدت الشركة البريطانية، أحد ملاك قناة السويس، وكانت الإسماعيلية وقتها تخضع للنفوذ الاستعماري البريطاني، وحسن البنا نفسه اعترف بتلقيه مبلغ 500 جنيه مصري كدعم لنشاط التنظيم في بدايته وهذا مبلغ ضخم في ذلك العصر».

ويقول البشبيشي «بعد ثورة 1919 نما شعور المصريين الوطني وسلكوا طريق الاستقلال الوطني ورفض التبعية للاستعمار الوطني، والتفَّ المصريون حول سعد زغلول وجعلوا منه زعيمًا وطنيًا، ثم التفوا من بعده حول حزب الوفد ورأوا فيه منقذًا لهم من الاستعمار البريطاني، وبدأ في مصر عصر جديد وبدأ معه تآمر بريطاني جديد على ثورة 19 ونتائجها، ومن المعروف أن البريطانيين يتميزون بالدهاء والخبث الشديدين، فهم لا يستطيعون مواجهة شعور الاستقلال الوطني الذي يسري في دماء المصريين فبدؤوا باللعب بورقة الدين لتفرقة هذا التلاحم الشعبي، فهؤلاء اللئام ضربوا نتائج هذه الثورة العظيمة بسلاح المزايدات الدينية في مقتل، وبدأ الإخوان كالسوس ينخرون في جسد مصر، ورفعوا شعارات دينية وليست وطنية، فإذا هتف المصريون لبلدهم أنتِ غايتي والمراد... هتف الإخوان الله غايتنا».

ويتابع «البشبيشى» «وقد بدأ الإخوان في تآمرهم على حزب الوفد، تارة بمساندة القصر وتارة أخرى بمساندة شخصيات وزعماء يعادون الوفد مثل إسماعيل صدقي الذي سانده الإخوان بقوة عندما ألغى دستور 23، وكانوا هم الفصيل الوحيد الذي وقف بجانب إسماعيل صدقي، فهذه هي حقيقة العلاقة بين بريطانيا وابنها حسن البنا».

ويقول «البشبيشي» «لن تستغني بريطانيا أبدًا عن الإخوان فهم تنظيم وظيفي تم تأسيسه لخدمة المصالح الغربية في المنطقة وورقة مهمة في يدها تلاعب بها جميع الأنظمة التي تريد إخضاعها لهيمنتها» مضيفا «الرعاية البريطانية للإخوان تتعدى الدعم المالي فاستثمارات التنظيم الدولي تحتضنها الأراضي البريطانية، وترعى بريطانيا دعم قطر وتركيا وغيرها للإخوان بالأموال والمنابر الإعلامية الداعمة للتنظيم».

هذه الاستثمارات قدرها سعد الدين إبراهيم رئيس مركز ابن خلدون بين 8 إلى 10 مليارات دولار.

وفي هذا الإطار يمكن فهم احتضان بريطانيا للمنشقين المتأسلمين من السعوديين.