عرب الجزيرة قادوا أحد أهم الحضارات الرئيسية، ويعد السعوديون محور أسلافهم، ولهذه القيادة موروثات تاريخية تفسر حاضرنا وتستشرف مستقبلنا، ومع الاهتمام الأول من تاريخه بمنطقة العلا التي كانت موطنا للأنباط، فلا بد من تعزيز الفهم لأحد جذورنا التاريخية ودورها الحيوي في تطور ثقافتنا العربية، وهو ما نادى به ولي العهد عبر تأكيده عمليا لدور بلادنا في قيادة التاريخ والحضارات الإنسانية.

الأنباط هم عرب خرجوا من قلب الجزيرة العربية، وأقاموا دولة قبل التاريخ الميلادي بثلاثة قرون واستمرت قرنا بعده، وقد امتدت من شمال الحجاز السعودي حتى صحراء النقب الفلسطينية وشملت أجزاء من سيناء المصرية، وكانت عاصمتها البتراء الأردنية، والتي اختاروها عاصمة بسبب موقعها الإستراتيجي القديم، وهم كما تؤكد الموسوعة العربية (عرب بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حيث إن أسماءهم كانت حارثة وعبادة ومالك وقصي وجميلة، أما آلهتهم فكانت هي آلهة العرب، ذو الشرى واللات والعزى وهبل ومناة).

تطور لغة الأنباط يعد أحد جذور تطور اللغة العربية، فقد كانوا يتحدثون العربية فيما بينهم بلهجة مختلفة نسبيا عن لهجة قريش، ولكنهم دونوا رسميا بالحروف واللغة الآرامية، حتى أصبحوا تدريجيا يدونون العربية ولكن بحروف آرامية، وهو ما برز في نقوش مدافن الحجر. وقد كان اعتماد الآرامية السامية بداية لكونها لغة التواصل السائدة في المنطقة، وهي ضمن اللغات السامية التي ورثتها العربية لتصبح الأخيرة ذروة التقدم اللغوي الإنساني الذي استمر لأكثر من 800 عام كلغة علم وسياسة.

اعتمدت حضارة الأنباط على الحكم والتجارة، خاصة في تجارة طريق البخور والتبادلات التجارية الدولية، وفرضهم الضرائب على المحيط الروماني والمصري، وبنوا حضارة متقدمة تملك أسطولا بحريا يسيطر على البحر الأحمر، ورغم ميل العرب التاريخي للتجارة والحكم إلا أن عرب الأنباط أبدعوا في الهندسة والصناعات الحرفية، فطوروا وسائل هندسية متقدمة في البناء العمراني، وشقوا قنوات الري واهتموا بالزراعة واستثمروا في المعادن مثل النحاس والحديد، وجمعوا القار من البحر الميتوكانوا يوردونه لمصر كي يستخدمه المصريون في تحنيط الموتى، وسكوا العملة بأسماء ملوكهم، وكان لديهم جيش منظم شديد المراس، وكانت لهم وسائل لتنظيم القوافل والتخزين والتصريف والقروض المالية وفوائدها، بل كان لهم مجلس للشعب يؤثر على قرارات الملك، وهو ما نجده جذورا ثقافية لشورى سقيفة بني ساعدة المدنية المجاورة لمنطقة العلا، كما أن الأنباط تميزوا بقلة العبيد وانعدام التماثيل العارية، وذلك بعكس الإغريق، وهو ما يعكس رقي الثقافة العربية وتميزها بمستويات أعلى من الرحمة والفضيلة والتعفف. ورغما عن ذلك فقد كان هناك تقسيم اجتماعي طبقي كما يشير له خالد الحموري في كتاب مملكة الأنباط، وهم الإرستقراطية العربية أو ما يطلق عليهم بأهل الحل والعقد، وفئة المواطنين الأحرار، وفئة العبيد، وفئة الأجانب، ورغما عن ذلك فقد تميز الأنباط بالبساطة والتعاون والتنظيم القبلي الذي يشبه النظام الاجتماعي السعودي التقليدي المعاصر مع قابليته على التناغم مع مؤسسات الدولة الحديثة، ويشبه النظام الأردني التقليدي المتماسك.

أما في العمارة والفنون فيشير الباحثون إلى تأثرهم بالفن الهيلينستي اليوناني، غير أن الأنباط تميزوا بنقش المباني أو المدافن الصخرية، وقد كانوا ينحتون التماثيل ولا يميلون إليها كثيرا، وقد برعوا في نحت الفخار والأدوات، وقد كان كثير من الشواهد العمرانية للأنباط قبورا للنخبة، وهو العرف السائد في المنطقة بأسرها قبل أن يقضي الإسلام على هذه الفكرة باعتبار الأحياء أولى من الأموات.

وقد كان للعرب إجمالا دور تاريخي استثنائي في تغيير العالم عبر استئناس الخيل للمرة الأولى في التاريخ في حضارة «المقر» النجدية، ثم استئناس الجِمال واستخدامها في التجارة الدولية لقدرتها الفائقة على نقل البضائع الثقيلة لمسافات طويلة بعكس البغال العراقية التي لم تتمكن من التوسع بأهلها في مناطق أبعد، وهو ما انعكس على الأقباط الذين ساعدتهم الخيول العربية على الحركة، وكان لهم مئات الجمال المحملة بالبخور والتوابل والعطور والبان والمر، والتي كانت تبدأ من شواطئ عمان واليمن مرورا بمكة والمدينة وانتهاء بدول الشمال بهدف البيع أو المقايضة.

سقطت مملكة الأنباط على أيدي المنافسين الرومان والذين سيطروا على عاصمتها في الأردن، وبقي سكانها العرب في البتراء تحت الحكم الروماني، واستمرت ثقافتهم حتى عاد عرب الجزيرة من جديد عبر إمبراطوريات أكثر نضجا وتفوقا، فجعلوا الأردن والشام والعراق تحت حكمهم، غير أن حضارة الأنباط ضمن ما يؤكد على حجم التفاعل الحضاري وتأثيره على العرب، ويفسر طبيعتهم التاريخية في القابلية على التغير والانفتاح والبناء والتنظيم والصناعة والتحضر حتى لما قبل الإسلام، وهو ما استمر في التنامي لأكثر من 3 آلاف عام بعد ظهورهم على مسرح التاريخ، وعبر توسعهم بالهجرات أو التجارة أو الجيوش، وإنشائهم لعدة ممالك وإمبراطوريات تاريخية وصلت إلى ذروتها مع المملكة العربية الأموية، وعادت في العالم المعاصر في قلب الجزيرة العربية من خلال المملكة العربية السعودية.