القول بأن أميركا دولة علمانية حيث تفصل فيها أعمال الحكومة والتشريع عن المؤسسات الدينية أمر يعد من الناحية الإصلاحية صحيحا، ولكن علينا ألا نغفل أن رجال السياسة والقضاء والتشريع غالبا ما يتبوؤون مناصبهم الرسمية من خلال ارتياح منتخبيهم لمنطلقات المرشحين الدينية أو اللادينية، فالمحافظون يبحثون عن المترشح «الأقرب إلى الله» إن صح التعبير والليبراليون يسعون لانتخاب من هم أقرب إلى رغبات الشعب.

كان ـ وربما لا زال ـ الرأي السائد من الخارج عن أميركا أنها دولة وشعب غير متدين، فهو يغلب مصالحه الدنيوية على المبادئ والشرائع السماوية، فالانحلال الأخلاقي كما يسميه البعض منتشر والمرأة تخضع لبطش وظلم المدنية، والأسرة تتفتت بسبب ابتعاد الأبناء عن احترام الوالدين، والعدالة الاجتماعية غير موجودة بسبب سطوة الأغنياء وافتقار النظام لنهج لا دنيوي في بسط التكافل والتراحم بين الناس.

لن أنسى مشهد المبنى الذي كان يحترق ومذيع سي إن إن الذي يتحدث عن انتحار جماعي لطائفة مسيحية متطرفة رفضت التسليم للسلطات الفيدرالية، كان ذلك في عام 1993 حينما كنت أعمل في جريدة الرياض، ووسط الذهول الذي أصابني وزملائي في غرفة التحرير من ذلك المشهد الذي كان يبث حيا على الهواء، سألت أحد الزملاء من «ذوي الخبرة الصحفية» عن السبب الذي يدفع البعض للانتحار باسم الدين، فكان جوابه الذي أتى جاهزا «لأنهم لا يخافون الله، والحمد لله على نعمة الإسلام».

حادثة الحريق الذي وقع في مجمع «طائفة الفرع الداوودي» في مدينة «ويكو» في ولاية «تكساس» تعد اليوم في أميركا أحد أكثر الأحداث دموية وإثارة للجدل بين الأوساط المناهضة لسيطرة الحكومة الفيدرالية على الحياة العامة للناس، فهي دليل على أن الحكومة وإن ادعت العلمانية إلا أنها من جانب تدفع نحو دعم المؤسسات الأكثر اتساقا مع السائد المسيحي العام ومناهضة للجماعات الخارجة عنه، ومن جانب آخر تعمل على تغطية فشلها في إدارة المجتمعات بالحكمة، واتكالها على فرض مبدأ القوة وإن كان ذلك على حساب قناعات الناس وإيمانهم.

تلك الحادثة التي شهدت محاصرة مجمع الطائفة لمدة 51 يوما، وانتهت بهجوم على المجمع الذي احتضن زعيم الطائفة «ديفيد كوريش»، وأكثر من مائة من الأطفال والنساء والرجال من أتباعه، بدأت كما يقول البعض لسبب قد يكون غير متوقع، فالشواهد تقول إنه قبل الهجوم كان هناك اتجاه في الكونغرس الأميركي لتقليص ميزانية ونفوذ «مكتب الكحول والتبغ والأسلحة النارية والمتفجرات»، وهو السبب الذي دعا قيادات المكتب لاستغلال إخبارية عن وجود أسلحة في مجمع الطائفة للهجوم عليه رغم أن الدستور الأميركي في تعديله الثاني يكفل للأميركي اقتناء وحمل السلاح، إلا أن المكتب وجد أن من صالحه تحويل القضية لهجوم عسكري يجعل دوره أمام الجمهور الأميركي وبالتالي الكونغرس حيويا وضروريا لحفظ الأمن وتطبيق القانون.

المشكلة تطورت بعد أن تحولت محاولة إلقاء القبض لمعركة بين المكتب وكوريش وأتباعه، اضطرت مكتب التحقيقات الفيدرالية للتدخل ومحاولة إخراج المتحصنين بالتفاوض في البداية، إلا أن الأمور انتهت بكارثة تقول السلطات الرسمية إنها انتحار جماعي بأمر من كوريش، بينما يقول من تبقى من أتباع الطائفة أن الغاز الذي سرب داخل المبنى هو ما أدى لنشوب الحريق والتسبب بموت أكثر من 80 إنسانا.

إذاً عودة لعلمانية أميركا، وهل تتدخل الحكومة بالدين وتسير وفق المنهج الذي تراه هو السائد بين الناس، والإجابة على هذا السؤال حتما معقدة ولها تفصيلات قد تكون أحيانا متناقضة، وفي ذات الوقت منطقية على السواء، ولكن في تقديري يبقى الدين في أميركا محركا أساسيا لتحديد صلاحية الفرد في نظر محيطه، كما أن الدين يستخدم حكوميا لشيطنة جماعات ودعم جماعات، علما أن المدارس الأميركية مثلا تمنع تدريس الدين، إلا أن هناك مجتمعا محافظا واسع التمدد يرسخ في تربيته لأبنائه التعاليم الدينية خارج أسوار المدارس التقليدية.

ديفيد كوريش كان مسيحيا قيل إنه ادعى النبوة لأنه قال إن الله يتحدث معه، وهو أمر من الناحية القانونية ليس جريمة في أميركا، كما أنه اقتنى السلاح وهو أيضا ليس جرما يعاقب عليه القانون، فهل تدخلت الحكومة في دين أحدهم لأن الكونغرس دفع الجهات الأمنية للبحث عن طوق نجاة عبر التنمر على طائفة منعزلة، أم أن النظام أساسا مبني على محاربة الأديان التي تختلف عما يؤمن به السائد، خصوصا أن تبرير مكتب التحقيقات الفيدرالية بعد الكارثة كان مفاده أن كوريش كان يعدد الزوجات وهذا مخالف للنظام، ومعروف أنه مخالف للدين المسيحي، فهل مخالفة النظام المدني المؤسس على الدين تستحق أن يموت من أجلها كل هؤلاء!.