منذ ظهور آفة الإرهاب التي ظلت تمثل هاجسا لمعظم دول العالم، ووقوع بعض الأعمال التخريبية المرتبطة بتلك الفئة الباغية داخل المملكة، اهتمت السعودية بشن حملة منظمة لاستئصال تلك الفتنة التي أطلت برأسها، واعتمدت على إستراتيجية مرنة متعددة الأدوات والأساليب لتحقيق ذلك الهدف.

فكان من الطبيعي -في البداية- أن تبدي اهتماما كبيرا للعامل الأمني، إذ حقّق رجال الأمن السعوديون إنجازات أمنية هائلة في التصدي لأعمال العنف والإرهاب، ونجحوا -بدرجة كبيرة- في حسم المواجهات الأمنية مع فئات البغي والضلال، وتمكّنوا في ظرف وجيز من القضاء على أرباب الفكر الضال واعتقال كثيرين منهم، وتحولوا بسرعة مذهلة إلى أسلوب الضربات الاستباقية التي أدت إلى إفشال كثير من العمليات الإرهابية، ليس داخل المملكة فقط، بل وخارجها أيضا، إذ أقرت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بأن أجهزتها الأمنية تمكنت من إحباط عمليات إرهابية قبل وقوعها، بعد تلقيها معلومات استخبارية مفصّلة من أجهزة الأمن السعودية.

رغم تلك النجاحات الأمنية المتلاحقة، إلا أن المملكة تجاوزت الخطأ الرئيس الذي وقع فيه عدد من دول العالم، بالتركيز على العامل الأمني دون غيره من بقية العوامل الأخرى، فركزت بصورة كبيرة على الجانب الفكري، وأولت أهمية بالغة للرد على الترهات التي يكررها الإرهابيون، ويتخذون منها ذرائع لتبرير جرائمهم، وخداع العامة بفتاوى مضللة وأدلة مصطنعة، عبر اجتزاء النصوص وتفسيرها بغير معناها، وتحوير المعاني.

كما استصحبت الإستراتيجية العوامل الاجتماعية، استيعابا منها لطبيعة هذا المجتمع، فقدمت مساعدات كبيرة، ماديّا ونفسيا للذين أكرمهم الله بالتوبة وعادوا إلى طريق الرشد والهداية، وأعادت دمجهم في المجتمع من جديد، وأعانتهم على استئناف حياتهم بطريقة طبيعية.

من أبرز الجوانب التي اهتمت بها الإستراتيجية الأمنية، تجفيفُ منابع تمويل الإرهاب، ووقف القنوات التي كانت تمده بإكسير الحياة.

ومعلوم أن المجتمع السعودي يغلب عليه طابع الاهتمام بالجوانب الخيرية، ويسارع أفراده إلى تقديم المساعدات المادية والعينية للفئات الأكثر احتياجا، سواء داخل المملكة أو خارجها، وهو الجانب الذي حاولت المجاميع الإرهابية استغلاله، وربما تكون قد نجحت في فترة ما، لا سيما خلال الفترة الأولى لظهور تلك الأعمال الإرهابية في مجتمعنا، وهي الحقيقة التي فطنت إليها السلطات المختصة، فسارعت إلى سد تلك الثغرة، عبر تقنين العمل الخيري، ورسم مسارات واضحة له، فجعلت الحسابات البنكية وسيلة وحيدة لجمع التبرعات للمؤسسات والجمعيات الخيرية، لترشيد الدعم الخيري، وضمان وصوله إلى مستحقيه، وحرمان الجماعات الإرهابية من الحصول عليه.

وبذلك نجحت الأجهزة الأمنية في تحقيق إنجاز بالغ الأهمية، تمثَّل في اختراق الدائرة الثانية لأصحاب الفكر الضال، وهم المتعاطفون والممولون للإرهاب الذين يمنحونه مقومات البقاء. كما أصدرت الجهات المختصة وتبنت عددا من القواعد والتعليمات والأدلة الاسترشادية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وإرشادات الرقابة الداخلية ومكافحة عمليات الفساد المالي الذي يُعدّ الوجه الآخر للإرهاب، وأنشأت وحدات التزام في المنشآت، إضافة إلى إجراء عمليات تفتيش عامة وخاصة لأغراض التحقق من التزام الجهات الخاضعة لإشرافها بالتعليمات الصادرة بهذا الشأن. إضافة إلى إصدار نظام مكافحة جرائم الإرهاب وتمويله.

كما اتسعت الإستراتيجية السعودية لتجفيف منابع الإرهاب، فلم تعد مقصورة على المستوى المحلي فقط، بل شملت المستويين الإقليمي والدولي، إدراكا لحقيقة أن النظام المالي العالمي المتشعب يقتضي وجود تنسيق متكامل، لمراقبة كل الحسابات المصرفية المشبوهة التي تفتح في كثير من الأحيان بأسماء مستعارة، وأقامت عددا من المؤتمرات وورش العمل المتعلقة بهذا الجانب، وشاركت في عدد من الأنشطة المماثلة في دول العالم الأخرى، كما اتبعت نهجا صارما يعتمد على محاربة كل أشكال غسل الأموال التي أثبتت الحقائق ارتباطها المباشر بعمليات تمويل الإرهاب.

كما قدمت المملكة دعما كبيرا للجهود الدولية في استئصال الأفكار المتطرفة، وتبنت فكرة إنشاء مركز الأمم المتحدة الدولي لمكافحة الإرهاب عام 2011، وتمويله بما يزيد على 110 ملايين دولار.

ومن أجلى صور الإصرار السعودي على اجتثاث الإرهاب وتشجيع الدول الأخرى على محاصرته، تأسيس التحالف العسكري الإسلامي الذي يضم 40 دولة لمحاربة الفكر المتطرف، واختيار الرياض مقرا له، والمساعدات المادية والعسكرية الضخمة التي قدمتها للدول الأعضاء في التحالف، وكذلك تأسيسها مركز الحرب الفكرية والمركز العالمي لمكافحة التطرف «اعتدال»، بهدف تحصين الشباب ومنع وقوعهم في براثن الجماعات الإرهابية، بدلا من انتظار تورطهم، ثم العمل على علاجهم، والرد على الترهات والأكاذيب التي يطلقها الإرهابيون، ومخاطبة الشباب بلغتهم وطريقتهم، والوصول إليهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وتسهيل إيصال المعلومة للفئات المستهدفة.

وقد نجح المركزان بصورة مذهلة، نتيجة الرسائل التي تُبعث إلى الفئات المستهدفة، بـ3 لغات عالمية، مع التركيز على تحرير عدد من المصطلحات التي ظلت غامضة فترة طويلة، مثل الولاء والبراء، والجهاد، والحوار مع أصحاب الأديان السماوية الأخرى.

كما أولت عددٌ من المنظمات والهيئات الإسلامية في المملكة اهتماما كبيرا باستئصال الفكر المتشدد، والترويج لقيم الإسلام الحقيقية الناصعة، مثل التعايش والتسامح والحوار مع الآخر، وبرزت في هذا المضمار رابطة العالم الإسلامي التي بذلت عددا من الجهود لبيان براءة الإسلام من التطرف والعنف والإقصاء. كل تلك الجهود تثبت حقيقة واحدة، هي أن المملكة اختارت -بمحض إرادتها- التصدي للخطر الداهم الذي تمثله التيارات الإرهابية، وبذلت -وما تزال- كثيرا من الجهود لتحقيق ذلك الهدف، واستطاعت في سنوات قليلة تحقيق انتصارات لافتة، أعادت أولئك المتطرفين إلى الجحور التي كانوا يختبئون فيها، بعد أن حدت من قدرتهم على التحرك والمناورة، وأفقدتهم اتزانهم عبر ضربات استباقية ساحقة، وحرمتهم من كل مصادر التمويل التي كانوا يعتمدون عليها، وأنها لم ولن تدخر وسعا للوصول إلى غايتها، ليس مجاراة لأحد، بل قناعة وإدراكا لحقيقة أن ذلك يُعدّ مطلبا أساسيا للازدهار والاستقرار، وضمان سلامة وأمن الأجيال المقبلة.