بينما يقبع الطبيب العام المنهك تحت الضغط الهائل من عدد المرضى في أحد المراكز الصحية، تأتي سيارة الهلال الأحمر مسرعة لتفتح أبوابها وتضع مريضها في صالة المركز الصحي، وبعد ذلك ينصرف المسعف ممتطيا إسعافه الذي جاء به ليعود إلى مركزه الإسعافي. مشهد يبدو طبيعيا لأكثر القراء، لكني سأشرحه قليلا.

تأتي سيارة الهلال الأحمر التي ليس من صلاحيتها ترك مرضاها في المركز الصحي إلا بعد موافقة الطبيب، تضع هذه السيارة مريضها في المركز الصحي الذي ليس مؤهلا أصلا لمعظم الحالات الإسعافية، لا على مستوى التجهيزات ولا على مستوى الكادر الطبي، فالطبيب العام ليس طبيب طوارئ أبدا.

تترك سيارة الهلال الأحمر مرضاها إما دون الاكتراث بطبيب المركز - وهذه كارثة ورأيناها - وإما أن يأتي أحد المسعفين إلى طبيب «حديث التعيين» بلا خبرة، ويعطيه ورقة ويطلب منه التوقيع، فيوقّع هذا الطبيب العام المسكين و«يقع»!

وهنا، يغادر المسعف بإسعافه المركز الصحي الذي «ليس» مكانا للحالات الإسعافية أبدا، وإنما جاء إليه لأنه سيسلّم الحالة بطريقته هذه في دقيقتين، ولن ينتظر كما لو كان أوصلها إلى المستشفى «مكانه الصحيح».

فهناك ربما مكث ساعة أو ساعتين حتى تُستَلم منه الحالة، وهنا تبدأ قصة المستشفى المكتظ المثقل - مستشفى عسير أنموذجا - وحدّثْ ولا حرج.

ولك أن تعود إلى مقال لي سابق «ليلة جمعة في مستشفى عسير المركزي»، لترى ماذا يجري بعد هذه المرحلة. وكان الواجب على هذا المسعف - وفقا للنظام - ألا يُنزِل الحالة من إسعاف الهلال الأحمر إلا بعد أن يعاينها طبيب المركز الصحي «داخل الإسعاف نفسه»، ويضمن لها علاجا في المركز، ثم يستلمها بشكل صحيح رسمي، أو يشعره بعدم وجود علاج لها، ثم يتوجه بها إلى المستشفى، وهذا الإجراء في الحقيقة يضيّع وقتا ربما كان «ذهبيا» بالنسبة للمريض! وكان الأجدى عدم التوجه إلى مركز صحيّ أصلا.

ومن مشهد أعلى، فإن سيارة الهلال الأحمر الرائعة هذه، المجهزة بمئات الألوف يقودها «مسعف»، وليس سائقا ومسعفا متعيّنا حديثا، ربما يجهل طرقات البلدة بكاملها، فهو لا يعرف شرقها من غربها لغربته عنها، فلا غرابة عندما تراه يدور ساعة كاملة ليصل إلى هدفه.

في هذا الوقت، الذي نسميه طبّيًا «وقت حرج» Critical، والذي ربما يكون المريض المُوْدع في سيارة الهلال الأحمر مريض قلب أمامه 90 دقيقة فقط لتتلف فيه عضلة قلبه، أو مريضا توقف قلبه وهذا لديه 10 دقائق فقط لئلا «يموت» دماغه، أو مريض جلطة ربما لا تسعفه دقائق معدودة لينقذ من الموت أو الشلل، فضلا عن طفل ابتلع جرعة زائدة من عقار مخدر، أو راعي غنمٍ لدغته عقرب سوداء. فلا أظن مثل هذا - إلا برحمة الله - سينجو!.

مقابل سيارة الإسعاف هذه، والمجهزة بشكل رائع، ترى إسعافات وزارة الصحة ينقصها التجهيز بشكل كبير جدا، فكم رأينا من إسعافات لا تصلح إلا «للنقل» فلا حقائب طوارئ موجودة، ولا أجهزة قياس ضغط، بل ولا حتى «Ambu Bag»، رغم توفير الميزانيات الضخمة. أما الكادر الصحي هناك ففي الواقع إنه رائع ذو خبرة، لكنه رائع «بلا إمكانات».

من وجهة نظري أنا، يجب أن ندمج الإمكانات بالرائع، ولن أدعو إلى تنسيق بين وزارة الصحة وهيئة الهلال الأحمر، كما دعوت له قبل عام تقريبا، ودون مجيب، إنما أدعو الآن إلى «دمج» بينهما، بمعنى أن تضم هيئة الهلال الأحمر بأسطولها المميز إلى أبطال الصحة الرائعين من الممرضين المهرة والأطباء الممارسين. بمعنى أوضح، أن تُضَم هيئة الهلال الأحمر إلى وزارة الصحة ليس فقط لتوفير الميزانيات، بل -وباختصار- لنحصل على إسعاف مجهز بكادر خبير، لننقذ مريضا في حاجة ماسة. ولنكتف بعدم التنسيق والتضاربات الإدارية و«العناد» الملحوظ، على حساب صحة المريض. ودمتم بصحة.