يعتقد كثير من المؤرخين الأوروبيين والعرب أن أحد الأسباب الرئيسة لتخلف العالم العربي اليوم يعود في المقام الأول إلى حالة العزلة السياسية والاقتصادية والثقافية التي فرضها العثمانيون لفترة تزيد عن ثلاثة قرون على العالم العربي، ونحن هنا لا نريد أن نطرح تبعات تخلفنا وجمودنا كاملة على العثمانيين، ولكننا يجب أن نضع فترة الحكم العثماني نصب أعيننا، لأن فترة ثلاثة قرون من العزلة التامة عن المحيط الخارجي كفيلة بإسقاط أقوى الأمم والحضارات وأكثرها تقدما وعلما، فقد أصيبت الحضارة الإسلامية بالجمود منذ وقعت في قبضة الأتراك، ولم يزل هذا الجمود يعصف بمجرى حياة العرب لقرون طويلة بعد اندثار امبراطوريتهم العريقة.

إن الانعزال والانكفاء من السمات البارزة في تكوين الشخصية التركية منذ ظهورها على الساحة السياسية في العصر العباسي ثم في دولة السلاجقة، فالأتراك التزموا العزلة في ثكناتهم العسكرية دون الاختلاط بشعوب البلدان المفتوحة، وهذا يفسر ضعف الرصيد العلمي والأدبي والثقافي للأتراك مقارنة بغيرهم من الشعوب، ومن ضمنها حضارة العرب في الأندلس، التي تعد واحدة من أروع الحضارات في التاريخ الإنساني.

سعت الدولة العثمانية منذ بداية حكمها للمشرق العربي على عزله عن العالم الخارجي وبأوروبا على وجه الخصوص، وتطويقه اقتصاديا وعسكريا حتى نجحت في فرض حظر كامل من دخول أي سفن للبحر الأحمر، مؤديا إلى حدوث ركود اقتصادي في موانئ البحر الأحمر، بالإضافة إلى فقدان عديد من الطرق التجارية القديمة التي كانت تربط بين بلدان المشرق العربي للحيوية الاقتصادية، وزاد من معاناة هذه المنطقة التجاهل الكبير من السلطة المركزية في إسطنبول للعالم العربي، فقد كانت الدولة منشغلة في إنفاق الأموال الطائلة في الحروب المتوالية والغزو المستمر مما أشغلها عن القيام بحركة إصلاح شاملة في الداخل.

وفي ظل هذه الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة كان العرب حتى القرن التاسع عشر ومع كل حركات التحديث والتطور التي تعيشها أوروبا يعيشون عزلة ثقافية رهيبة، ولا يعلمون بمدى التقدم العلمي الذي أحرزه الأوروبيون، مما سلب العرب فرصة الإسهام بالتقدم العلمي والفكري، فكان من نتائج هيمنة العثمانيين وسياستهم الانغلاقية أن دخلت الشعوب العربية تحت حكم العثمانيين عصرا يعتبر من أشد عصورهم تخلفا وانحطاطا، توقف فيه نتاجهم العلمي والأدبي والفكري، ودخلت الحضارة الإسلامية عصرا من عصور الظلام لا تزال تعاني تبعاته.

لم تكن الدولة العثمانية دولة إنجازات علمية وفكرية متقدمة وكان الفكر الذي يطغى عليها فكرا قروسطيا، لا يعير اهتماما بالجانب العلمي والثقافي، بقدر ما يهتم بالجانب الحربي وإنشاء الثكنات العسكرية، فالعقلية العثمانية لا تتلاءم مع روح ومتطلبات العصر الحديث، وعاش العرب تحت ظل هذه العقلية بصفتهم (شعوب مستعمَرة) يفتقرون إلى القوة والسلطة والثروة والفرص التعليمية، وكل هذا كان حكرا على الأتراك مما زاد من إضعاف قدرات العرب الإبداعية، وجعلهم ينغمسون في التخلف أكثر، غير مدركين أنهم فقدوا كل أسباب التطور ومواكبة الأمم المتقدمة وغير واعين لحقيقة انهيار أسس حضارتهم.

وبعد سقوط الدولة العثمانية وتحرر العرب، وبعد أن تغلغل نفوذ الدول الأوروبية تجاه العالم العربي، أفاق العرب من سباتهم الطويل الذي دام ثلاثة قرون، على حقيقة أن حضارتهم الرائدة قد تزعزعت بشكل ليس له مثيل، إن لم تكن انهارت بشكل كلي، فكانت الحملة الفرنسية التي جاءت على مصر ومن بعدها الشام بمثابة صدمة حضارية استفاق خلالها العرب على واقع التخلف والجهل الذي يعيشون فيه، وأدخلتهم أزمة تاريخية وحضارية لم يستطيعوا الفكاك من قبضتها الخانقة. فهذه الصدمة الحضارية التي تعرض لها العرب بعدما أفاقوا من سباتهم الطويل الذي فرضه عليهم حكم العثمانيين المتخلف، أدت بهم إلى التوقف عن ممارسة أي دور ريادي في الركب الحضاري، فوصل بهم الحال إلى أن تقوقعوا ضمن ثقافتهم المحلية أو مارسوا دور المستهلك السلبي لمنتجات الحضارة الغربية الرائدة التي تعبر عن روح العصر الحديث.

تحررت البلدان العربية من سطوة الاستعمار العثماني ولكنها لم تشهد أي معالم نهضة أو حضارة، مما يعكس الحقيقة التاريخية، وهي أن العثمانيين ليسوا سوى غزاة ومستعمرين احتلوا بلاد العرب أربعة قرون، مثلهم مثل الاستعمار الفرنسي والبريطاني والإيطالي، استنزفوا ثروات العرب وأورثوهم الضعف والتخلف.