ليلة لا تُنسى عاشتها محافظة محايل عسير، سطع فيها أمير منطقة عسير تركي بن طلال، بحضوره البهي، وأطلّ عليها الشاعر الأمير «بدر» بن عبدالمحسن، وتفاعل معها الحضور الكبير الذي ضاقت به جنبات المكان على اتساعها. كانت المناسبة كبيرة، وتدل على حقيقة واحدة، هي أن مملكة الوفاء تبادل الشهداء عطاء بعطاء، وتكتب على جبين الوطن بأحرف من نور سيرة الذين خُضِّب تراب الوطن العظيم بدمائهم الزكية، وتزف شهداءها الأبرار في موكب الخلود والبقاء، وتزين أرض الحرمين بقصص رائعة من الفداء، فاستحقت نياشين البطولة والعظمة. كما جدد أبناء الوطن الأوفياء العهد والولاء على أن هذه الأرض التي قدمت تلك الكوكبة الفريدة من الرجال الكرماء، على أتم استعداد كي تواصل مسيرتها المظفرة، وأن مخزونها البشري من الأبطال العظماء لم ولن ينفد، وأنهم يتسابقون على ميدان الرجولة والشهادة، بقلوب مليئة بمشاعر العزة، وأحاسيس الفخر، كي ينالوا هذا الشرف العظيم. لا تهاب نفوسهم الموت، ولا تطمع في مكاسب الدنيا الفانية، بل تنظر أرواحهم نحو المجد، وتهفو إلى الخلود في دار البقاء، مجددين العزم على عدم السماح لأي عدو بأن يهدد أرض الرسالة الإسلامية، ما دام في عروقهم دم يجري وفي أجسادهم روح تتقد.

لم تكن المناسبة مجرد حفل خطابي تقليدي، بل أقيمت -كما أكد أمير المنطقة- بناء على توجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، اللذين نقل تحياتهما إلى الحضور الكريم، في تأكيد جديد على اهتمام القيادة الكريمة بأسر الشهداء وذويهم، وحرصها على تفقد أحوالهم، والتقدير الكبير لعائلات من ارتضوا مفارقة ديارهم وأبنائهم والعيش وسط الأحراش والصخور، والتصدي لمن سوّلت لهم أنفسهم محاولة العبث بأمن البلاد التي ترفع راية التوحيد، وتضم بين أرجائها الحرمين الشريفين. ولم يتردد أولئك الأبطال الشرفاء عن تقديم أنفسهم وأرواحهم فداء لوطنهم، فاستحقوا التكريم.

لذلك، أعلن أمير المنطقة تشكيلَ لجان من جميع قطاعات المنطقة، بالتنسيق مع وزارة العمل والتنمية الاجتماعية، لمساندة جهود القوات المسلحة، ودعمها في رعاية أسر الشهداء والعناية بهم، وتلبية جميع ما يحتاجونه.

كانت كلمات الأمير تركي بلسما على قلوب الحضور الكريم، وهو يسرد التضحيات العظيمة التي قدّمها أولئك الأبطال الذين سطروا أسماءهم في سجل الخلود والشرف، ويؤكد عظم الرسالة التي حملوها، والدور الكبير الذي لعبوه في دحر أعداء الوطن، مؤكدا أن التاريخ نقش اسم محافظة محايل في صفحة الأمجاد، ورصّعها بأسماء شهدائنا، فقد استحقت أن تكون صدرا فسيحا للكرامة، يحتفي بها الوطن، ليكرّم رجاله الأوفياء، من أهل المحافظة ومن غيرها من المحافظات الأخرى. وأنه لمَّا كان نهج هذه القيادة الأمينة، هو الحرص على عدم تفويت أي فرصة مستحقة، ليجعل منها بصمة خالدة وعلامة فارقة، لم يكن هناك بد من استنهاض الهمم ليكون صدر الكرامة باقة من الاحتفاء الشامل بالشهداء وذويهم، حتى استوى بستان «صدر الكرامة» أربعة عشر يوما من الإنجاز الجماعي، على المستويات الرياضية والثقافية، وانتهى بغرس علم البلاد الخفاق الذي جاد الشهداء بأرواحهم تحت رايته السامية، فوق أعلى قمة في محايل، ليرتفع كعادته، سامقا بكلمة التوحيد، محفوفا بنبض الفداء الوطني الصامد.

أما أبيات شاعر الوطن وقصائده الرصينة، فقد خاطبت الأرواح قبل المسامع، وجعلت أبناء الشهداء وآباءهم وأمهاتهم وسائر ذويهم كالنجوم التي تألقت في تلك الليلة، تغمرهم مشاعر الفخر والعزة، وترتفع رؤوسهم الأبية وكأنها تريد معانقة السماء، كيف لا والقيادة في أعلى مستوياتها تكرّمهم وتعتزّ بما فعله شهداؤهم الأبرار، وتعلن استعدادها لتذليل أي مشكلة قد تواجههم، وإزالة أي صعوبات قد تعترض طريقهم. ظلوا محط الأنظار ومركز الاهتمام طوال فعاليات الاحتفال، وعادوا إلى مجتمعهم مرفوعي الرؤوس. وهذا هو الرد العملي الذي عهدناه من هذه القيادة الكريمة التي تحرص على تقدير الذين ضحوا بحياتهم لأجل بلاد الحرمين، ودافعوا عنها بشجاعة وبسالة ضد من حاولوا النيل من أمنها واستقرارها، وهذا الاهتمام من القيادة ليس وليد الساعة، ولن تكفي لوصفه الساعات، مهما تعددت الألسن، ولن تكفي الصفحات مهما تعددت الأقلام، ويكفي فقط أن خادم الحرمين الشريفين، سلمان الحزم والعزم، أعلن في كثير من المناسبات أنه والد الشهداء وراعيهم الأول، كما يعلن ولي عهده الأمين ويكرر دوما، أنه مكان كل شهيد فقده والداه واحتاجت إليه أسرته، وهو ما يدفع كل المسؤولين على امتداد الوطن إلى التسابق على رعاية شؤونهم والقيام بمصالحهم، ومنحهم الأولوية قبل غيرهم.

تلك المشاعر الجياشة، والوقفات الجادة الصادقة، تذلل كثيرا مما يشعر به ذوو الشهداء من حزن وألم على فراق إخوتهم وآبائهم، وتخفف آلامهم، كما أن مواساة القيادة الكريمة لهم تشعرهم بالفخر والاعتزاز وسط عائلاتهم وجيرانهم، للدرجة التي دفعت بعض الآباء إلى الإعراب عن فخرهم بأبنائهم وتقديرهم لبسالتهم، وإعلان الاستعداد لإرسال بقية أبنائهم للذود عن حياض الوطن الكريم في جبهات القتال المختلفة. وفي مرات عدة أشار بعض أبناء الشهداء إلى فخرهم بآبائهم وأنهم على أتم استعداد كي يقتفوا أثرهم، ويتشرفوا بالانضمام إلى القوات المسلحة، لمواصلة مسيرة العز والفخار التي سار عليها آباؤهم.

وهكذا هي بلادنا، وهذا ديدنها، تبادل العطاء بالوفاء، وتقابل البذل بالإحسان، وتعطي الاهتمام لكل من يسعى إلى رفعة بلاده، وهذا هو السبب الذي يجعلها عصية على كل المغامرين، ولذلك تستمر راية بلاد التوحيد عالية خفّاقة، يظلل ربوعها الأمن، وتمضي بثبات على طريق الخير والنماء، ما دام في أبنائها من لا يتردد لحظة في تقديم نفسه فداء لها.