هناك أفكار تمكنت من إطلاق آفاق العقل الإنساني لفضاءات أوسع، وكانت ثقيلة على تاريخه، وذات أبعاد أدت إلى الخير الخلاّق، أو تسببت في الشر المطلق. ورغم بساطة بعضها إلا أنها عمليا كانت إنجازات بشرية لم يدركها ويعمل بها الإنسان، إلا خلال رحلة طويلة من الصراعات.

التنوير، فكرةٌ قديمة اشتهر بها الألماني كانط، وفسّرها برفع القصور عن العقل واعتماده على نفسه، واستمرت فلسفة التنوير باعتبارها مرحلة فكرية نادى فيها الفلاسفة بالاعتماد التام على العقل، والتخلص من التقليد والكسل الموروث، والذي يعد ضد التنوير.

المنطق، وهو من أوائل محاولات العقل لوضع قوانين التفكير، ونسب لأرسطو تأسيسه علم المنطق رغم أسبقية فلاسفة الصين وغيرهم بقرون، وقد ناقشه العرب الأوائل انطلاقا من أعمال الكندي. وتطور إدراكُنا للمنطق حتى وصل إلى ذروته، خلال فهم المغالطات المنطقية، مع استحالة وضع قوانين منطقية ثابتة تؤدي إلى نتائج مؤكدة، إلا خلال استخدام مناهج البحث العلمي، باعتبارها أفضل منجزاتنا للفهم قبل العودة إلى المنطق لمحاكمة المنهج.

الشك المنهجي، فلسفةٌ اشتهر بها ديكارت القائل «أنا أفكر أنا موجود» باعتبار الشك مدخلا إلى اليقين، وتأثر به طه حسين فقدم نقد الشعر الجاهلي، وقد يسقط دعاة الشك المنهجي في الشكوكية أو الارتياب المؤدي إلى التردد والنفي العبثي.

العلمانية، وهي نقاش فضّ النزاع بين الدين والدولة، وكان من أهم نقاشات العرب والتي اشتهر بها ابن رشد في محاولة فض النزاع بين الدين والعقل، لينتقل النقاش إلى علاقة الدين بالسياسة والمجتمع والاقتصاد، ويستمر مفهوم العلمانية في التطور خلال نضج مفاهيم الدولة والمواطنة ودولة الخدمات العامة وغيرها.

الليبرالية، ضمن الأفكار التي أنتجها التنوير، وتشير إلى الحرية والمساواة بين البشر سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وهو مبدأ قديم ساد في مختلف الحضارات، وتحدث به العرب خلال نقاشاتهم الفلسفية والفقهية، وقد نجحت المبادئ الليبرالية في إحداث منظومة عالمية جديدة، تزامنت مع التجارب الحيّة للصراعات الدموية، ورغما عن ذلك لم نصل إلى المرحلة المأمولة في المساواة بين كل البشر.

البراجماتية أو الذرائعية أو العملانية، وهي فلسفة واقعية لإيجاد الحلول الممكنة للمشكلات واتخاذ المواقف العملية للتساؤلات، وفق الأخلاقيات الممكنة، وكانت البراجماتية انعكاسا لواقعية الثقافة الأميركية في مطلع القرن العشرين، وهي بعكس الوصولية التي عرف بها الإيطالي ميكيافيللي، والتي أكد فيها أن الغاية تبرر الوسيلة دون اعتبار للأخلاق، غير أن فلسفة ميكيافيللي إجمالا كانت من أهم مصادر التنوير التي يمكن اعتبارها مرحلة مهدت لظهور البراجماتية.

التطور، وهو المفهوم الذي استعرضه عدد من الفلاسفة العرب، وعلى رأسهم ابن خلدون، للإشارة إلى السلف المشترك للإنسان وقد انتقل مفهوم التطور من الخلق إلى المفاهيم، فظهرت نظريات التطور الاجتماعي، وقد أدت الفكرة إلى أشكال من التطرف الجنوني، مثل أوهام التفوق الحضاري للإنسان الأبيض، أو اعتبار الإنسان الألماني على رأس سلم التطور، وعلى ضرورة سحق القوي للضعيف بناء على قوانين البقاء، ورغم جدلية الفكرة إلا أنها كانت من أعظم أفكار التنوير التي فتحت مساحات واسعة لفهم الطبيعة البشرية وحركة التاريخ.

الوجودية والعبث، ويمكن تفسير الوجودية بأنها حالة الرغبة في الحياة كما هي، وبحرية تتخلى عن كل المعتقدات والمسلمات باعتبار العدم هو النهاية، وجاءت شخصية زوربا الإغريقي للروائي الوجودي كازانتزاكيس لتعبر عن حالة الشخص العبثي الوجودي العدمي السعيد بذاته على ما هي عليه، ورغم عبثية هذه الفلسفة إلا أنها أنتجت أعمالا أدبية جميلة ونقاشات فلسفية عميقة.

الرأسمالية والشيوعية، فكرتان متضادتان، ترى الأولى في حق الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، وترى الثانية في حق الملكية المشتركة لتلك الوسائل، وقد ظهرت الثانية لمحاولة إيجاد حل لأزمة التفاوت الطبقي، ولكنها عجزت عن الوصول إلى الكمال فكانت وسيلة كي تطور الرأسمالية من نفسها، ويستمر الحق الإنساني الفرداني في التملك، وتستمر الطبقية الرأسمالية.

المادية والمثالية، فلسفتان متضادتان أيضا، ترى الأولى أن المادة هي أصل الطبيعة وهي التي تفسر كل شيء حتى الوعي، وترى الثانية عكس ذلك لأن الأفكار وموقف الوعي هو الذي يغير حركة التاريخ، ويتبنى المثاليون مفهوم تاريخ الأفكار باعتبار الحضارة الإنسانية حركة مستمرة من تطور الأفكار، بينما يتبنى الماديون أفكار التطور الأحيائي، ويرون -مثلا- أن الحروب لا تحدث إلا بسبب البحث عن الموارد.

قد يقع الفيلسوف فيما يقع فيه الشاعر، وهو التعامل مع الأفكار الفلسفية كقصائد شعر جميلة تغذي الروح، ورغم موت الفلسفة كمنهج علمي إلا أنها باقية ما بقي العقل الإنساني، وكل هذه الأفكار الثقيلة قد نجدها لدى الأعرابي الذي يتساءل عن المسيرة بالأثر، وقد نراها في زعيم يقود المجتمع إليها بحكم الواقع والحاجة، فهذه الأفكار ليست عقائد إنما تفسير للواقع.