عبر مختلف العصور وماضي الأيام، قرأت أن هناك مجالس للعلماء والأدباء ورجال الفكر والثقافة، وتنوعت هذه المجالس حسب نوعية مرتُاديها والنخُب التي تزورها أو تُدْعى إليها. وتختفي وتعلو هذه الصالونات حسب شجاعة من يقُيمُها ويُعنَى بها، وقد يكون للتنمية دور رئيس فيها، وهذا ما حدث في زمن الطفرة في السبعينات الميلادية، إذ رأينا انشغال كثيرين في التجارة التي صرفت الناس ردحا من الزمن، والتهافت على حصول الناس على جزء من الثراء الذي عمّ كثيرا من بيوت المجتمع إلا من رحم.

هذه الفترة كنت أدرس في أروقة الجامعة، وأكتفي -كغيري- بالحصول على نسخ من المجلات والصحف، لكن السنوات الثلاثين الماضية، بعد تخرجي تغير وجه المجتمع قليلا، وبدأت بيوت المثقفين تُعنَى بإقامة الأمسيات الثقافية والشعرية والحوارات ومناقشة الموضوعات الوطنية، حتى استقر الناس اليوم على سباق نحو تطوير ديوانياتها وجمع العلماء والمثقفين والإعلاميين، حتى إنك الآن لا تستطيع تحديد موعد ثابت مع أحدية أو إثنينية أو ثلوثيّة، مما جعلني أسأل: أين دور الأندية الأدبية من جمع شتات هذه الأروقة والمنتديات التي سُمّيت مؤخرا بالديوانيات في بعض مناطق المملكة؟ مثل جدة ومكة والمدينة والرياض والشرقية وعسير، وغيرها، مما لم أقم بزيارتها أو أجلس في منتداها. ولم يغب عن ذهني أنني قمت ذات مساء بتلبية دعوة الإخوة في ندوة المباركية في الأحساء، وتشرفت بلقاء عالم جليل، هو شيخنا العلامة قيس المبارك، عضو هيئة كبار العلماء، كما دُعيت وتشرفت بصحبة علامتنا الشيخ محمد ناصر العبودي، في ثلوثية المشوّح للكاتب الأستاذ محمد المشوّح والجاسرية مع الأستاذ عبدالكريم الجاسر، وغيرها كثير.

قد لا أحصي من يهتمون بهذه المجالس، ويقيمون لها حوارات وندوات عامة ومتخصصة، لكن ما لفت نظري في بحر هذا السباق المحمود، هو ديوانية لأحد أبناء الأسرة المالكة، تلك هي ديوانية الأمير فهد بن مشعل، الذي انتقى لها رموزا علمية وإعلامية، واصطفى لنفسه أن يأخذ خطّا مختلفا عن الآخرين، فبدأ -وفقه الله- بالرفع من مستوى هذه الندوات، إذ رأيت في إحدى لياليها أن الضيف فيها الشيخ د. سعد ناصر الشثري، عالم العصر وفقيه المرحلة مع زملائه من هيئة كبار العلماء في المملكة، إذ دار موضوع مميّز بين الحاضرين افتتحه الشثري بكلمة ورسالة موجهة إلى جيل اليوم، وهو الانتماء الوطني، وتحذير الجيل من الانخراط في تتبع الإشاعات، أو تصّيد الهفوات وتضخيمها أمام الرأي العام، وحمّل الأمة كلّها مسؤولية الدفاع عن رموز الوطن: قادةً وعلماءَ ومجتمعا. وتنبيه العامة إلى ما يخطط له في عالم اليوم، وما يمكن أن يجر الناس إلى الفرقة والتنازع في زمن نحتاج فيه إلى الالتفاف حول علمائنا وقيادتنا، والذبّ عن أعراض الناس ومعالجة القصور لو حصل -لا سمح الله- بالمناصحة والدعوة الحسنة، وإبراز دور الإعلام في هذه المرحلة، وأن كل مواطن اليوم هو إعلامي تقع عليه مسؤولية الدفاع عن دينه ووطنه ومجتمعه. فكانت هذه الليلة إحدى ليالي العلم التي يفترض أن الديوانيات أن تنهج ذلك المسلك، وأن تتخصص ديوانيات العصر إلى ما يفيد، فهذه تختص في الأدب وأخرى في الوطنيات، وثالثة في التاريخ، ورابعة في الإعلام، من رجالات المملكة وتاريخها الطويل، وهذا لا يعني بالتأكيد أن دور الثقافة محصور عليها. فالأندية الأدبية قامت وستظل ذات مرحلة تجمع النخب والمؤلفين في مسارحها، أو في إحدى البيوت الكبيرة، بالتعاون معهم والإشراف على تنفيذها.

ولا بد لوزارة الثقافة أن تشرف على هذه الديوانيات والأندية، وأن يكون هناك تنافس شريف بينها لمصلحة نقاء الكلمة والرفع من مستواها ومن يُختار للحديث في هذه المجالس التي أنا متأكد من كونها أحد أعمدة الدفاع عن هذا الوطن، والوقوف ضد المتربصين من أعدائنا الذين جعلوا هدفهم ضرب اللحمة الوطنية، عبر مختلف القنوات والأساليب ومسؤوليتنا تتعاظم أمام هذه الهجمة الشرسة على بلادنا، لكنها -بإذن الله- ثابتة على الحق لا يضرها من خذلها إلى قيام الساعة. دامت بلاد العز.