بدا على المشهد الثقافي في معظم مناشط الأندية الأدبية أن الأكاديمية هي الواجهة لهذه الأندية، وأن (البحث الأكاديمي) هو عنوان ومادة الفعل الثقافي لهذه الأندية.

 وهذا يثير أسئلة كثيرة حول هذه العلاقة القسرية بين أندية يفترض فيها أن تكون تفاعلية وخارج سرب العمل الأكاديمي ويكون فعلها مع المتغيرات الواقعية للحال الثقافية الحرة، ولكن الوضع يظل يكرر نفسه مرارا ومرات ليثبت نمطية راسخة تكشف أن النادي الأدبي في أي مدينة هو امتداد لقسم اللغة العربية المجاور للنادي أو ضيف النادي، والملتقيات الدورية تعزز هذه النمطية، بل إنها أصبحت تشيعها بالعدوى بين الأندية.

هنا يأتي واجب التعامل مع التساؤل الذي يطرح دوما عقب أي لقاء لأي من أنديتنا.

سأعود لذاكرة المصطلح وأشير إلى العام 1996 في تونس حيث طرحت أول بحث لي في مجال النقد الثقافي، وكان عن نسقية نزار قباني، وقلت فيه غير ما هو معتاد في مثل ذلك اللقاء، وطرحت مقولة: موت النقد الأدبي. كان ذلك امتحانا للفكرة ولمشروع النقد الثقافي أيضا، وكررت التجربة في القاهرة وفي الرباط وفي البحرين وفي الرياض في تعاقب بين الأماكن والعقول وشغب الأسئلة، إلى أن حسمته بحثيا في كتابي النقد الثقافي، ثم تعاقبت السنين لتؤكد مقولة موت النقد الأدبي. ولكن تبين لي أن هناك استثناء مهما لا بد من أخذه في كامل الاعتبار.

والاستثناء هو الجامعة بوصفها مؤسسة علمية بحثية، والبحث العلمي إذا ما كان أكاديميا فإن تغييره لن يتم بسهولة، وستقاوم المؤسسة فكرة التغيير الجذري، خاصة ذلك التغيير الذي يقوم على مظنة الإلغاء، فإذا قلت بموت النقد الأدبي أمام قسم أكاديمي يقوم وجوده المعرفي على نظرية النقد الأدبي ومستتبعاتها العريقة كالبلاغة والنقد بفروعه وأسسه العريقة، ومع هذا فهناك قوة بشرية تأسست على عقلية النقد الأدبي وعلى منتوج لهم ينتمون إليه، وهو منتوج صدر بعرق الجبين وجهد السنين، ولن يتخلى شخص عن تاريخه الخاص، بمثلما أن المؤسسة لن تتخلى عن وظيفتها الأصلية وتسلم بموت إنتاجها، وكأنها تكتب النهاية لتاريخها ووجودها. لم يغب عن بالي هذا المعنى ولم تدهشني قط مقاومة المؤسسة وممثلي المؤسسة لفكرة موت النقد الأدبي. لأن المؤسسة تعتمد التخصص وتراه شرطا يرسم الحدود، ولن تعترف ببحث عن القبيلة والقبائلية ولا ببحوث عن الليبرالية الجديدة، والثقافة التلفزيونية، وثقافة تويتر، وستعد هذه البحوث تخص أقساما أخرى ستسميها الاجتماع والإعلام والعلوم السياسية. يحدث هذا لباحث مثلي مع كتبي، ولن يضيرني بشيء ولن يعطل عملي الذي أراه أصلا تمردا على المؤسسة وأتعمد هذا التمرد. ولكن ليس لطالب جديد على البحث ويتطلع لأن يكون مقبولا من المؤسسة، ولو قيل له إن مشروع بحثك لا يتصل بقسم اللغة العربية وأنه من تخصص قسم آخر، وهذه جملة تكتب له النهاية وفشل الرحلة قبل الشروع فيها، وهذا القول مني ليس افتراضا، بل حدث فعلا وتم رفض مشروعات بحثية كثر بحالات أعرفها وشهدت عليها، واضطر الطلبة لتغيير بحوثهم لتتفق مع شرط التخصص (الغبي طبعا، لكنه القوي والماضي عمليا).

من هذه الحالة تحديدا تبدأ المشكلة وتتضح معالم الإجابة على حال فعاليات الأندية اليوم. من حيث سيطرة الأكاديمية عليها، عناوين وأسماء. وسترى المشاركين والمشاركات في الملتقيات تحت صفة وعقلية المعنى الأكاديمي.

 لا غرابة إذن في حدوث هذه الظاهرة وتكررها، وسنظل نرى الأندية فروعا عن أقسام اللغة العربية، وسيندر أن ترى عناوين أو شخوصا خارج معنى (قسم اللغة العربية)، وسيظل النقد الأدبي هو الكلمة الواصفة لكل مشاركة وللنقاشات اللاحقة حتى ولو حضرها غير الأكاديميين.

 وفي تجربة نادي جدة الأدبي عام 1980 وفي أول اجتماع يرأسه عبد الفتاح أبو مدين بعد استقالة حسن قرشي لسفره سفيرا في السودان، تقدم أبو مدين باقتراح لتغيير اسم النادي إلى (نادي جدة الثقافي) وسنده في ذلك هو فتح فضاء النادي للثقافة، ولكن الرئاسة العامة للشباب اعترضت، ودار نقاش بيننا وبين الرئاسة انتهى بالتوافق على إبقاء كلمة الأدبي لتعزيز أدبية النادي، وإضافة كلمة الثقافي لفتح الأدب على الثقافة، وهكذا صار اسمه (النادي الأدبي الثقافي)، من بعد مفاوضات ساعدنا فيها تفهم الأمير فيصل بن فهد لتطلعات نادينا حينها.

 كانت مجموعة النادي حينها تعي معنى (الثقافي) مصاحبة للأدبي، لأن الفكرة حينها كانت هدفا مقصودا وبوعي تام للسبب والهدف المبتغى من ذلك، ولذا كان حماس النادي لفتح منصته للحداثة وللجدلية المجتمعية التي كان أبو مدين شجاعا في تحمل أعبائها ومغباتها بقوة تفوق كل قوانا، نحن الذين كنا معه وكنا نتخوف على مصير التجربة، وكنت شخصيا أحاول تخفيف الجرعات ليسهل علينا تمريرها، ولكن أبو مدين لم يكن يستسلم لتنبيهاتي، وكان أشجع مني بفارق كبير، وفي الأخير تمكنت سفينة النادي من العبور، مع كثير من الصدمات والصخور التي هشمت جسد النادي مرارا، لكنها لم تقتله، وظلت جذوة العمل متقدة رغم لسعات نارها واكتواء أبو مدين بأن أبعد ثلاث مرات بسبب قوة الضغوط، وأعيد لموقعه ثلاث مرات بسبب تفهم الأمير فيصل رحمه الله للقضايا ووقوفه بصف النادي.

 قصدت من رواية حدث التسمية لأعزز من فكرة مصطلح (الثقافي) وحضور هذا المصطلح عن وعي وتصور، لكون الثقافة معنى عضويا وليست مجرد مفردة متجمدة في عنوان النادي، وكأنه زائدة لغوية، كالزوائد النحوية التي لا تؤثر في إعراب الجملة.

 وحضور الأكاديميين للنادي ضروري وهو فتح وانفتاح مهم ولا مرية في ذلك، ولكن ….

 ولكن …..

 وبعد لكن الكبيرة هذه سأقول رسالتي التي من أجلها كتبت المقال وهي:

 نادي جدة أدبي ثقافي، ويجب أخذ هذا المعنى بجدية ووعي، والمعنى الذي أقترحه هو أن الأكاديمية موقعها الجامعة، وإذا حضرت للنادي فواجبها أن تحرر نفسها من قيد الشرط الأكاديمي وتمارس وعيها الحر، وأكرر وعيها الحر.

 إن كانت الكتابة عن ثقافة تويتر مثلا سيراها قسم اللغة العربية من تخصص الإعلام فهذا حق المؤسسة وشرطها، ونسلم به مع غبائه ومحدودية وعيه، ولكن حين أخرج خارج القلعة فمن حق نفسي علي أن أعطي الوعي الحر حقه، وأمارس توظيف معارفي الأكاديمية لطرق المغامرات البحثية واستكشاف الجديد والمتغير، مع التخلص من عبادة القسر، فالقسر قهر للذات الواعية الحرة، ولن يصح منا أبدا أن نحول الأندية إلى أقسام للغة العربية، وكأن الأكاديمية صارت فرضا على جماهير الثقافة والوعي الجديد.

 تلك كانت رسالة النادي عام 1980 ونحتاج اليوم لنشر هذا المعنى في نوادينا كلها وفي ملتقياتنا كلها، وإن استخدمت اسم نادي جدة فلأني شاهد على حدثه الأول ومراقب لأحداثه اللاحقة، ولكن قولي كله يشمل الأندية بلا استثناء، والظاهرة عامة على الجميع ومن الجميع.