كنت ولا أزال أرى أن ثمة تخادما بين الأخونة واللبرلة، وأنهما وجهان لعملة واحدة، صحيح أن الوسائل تختلف، فوسيلة الإخوان استخدام الدين سُلماً لمآربهم، ووسيلة اللبرلة استخدام الحرية والديمقراطية ونحوهما سُلما لمآربهم، ولكن الغاية واحدة، وهي الوصول إلى الحكم، ومن ثم تطبيق حزبيتهم المقيتة، ولذلك نرى أن الأهواء تتجارى بأتباع هاذين التيارين، فتارة يكون أحدهم إخوانيا، وتارة لبراليا، ولا حاجة لذكر الأمثلة فهي معلومة وكثيرة جدا.

فالإخوان يشككون في بلادنا من خلال المزايدة عليها في تطبيق الإسلام، والليبراليون يُقللون من شأن العقيدة الصحيحة التي قامت عليها بلادنا، والتي يسمونها (الأيديولوجية، والسلفية التقليدية)، حتى قال بعضهم إنها -أي: العقيدة- سبب لسقوط الدولة السعودية الأولى، ومقتضى هذا القول الباطل تنحية العقيدة، وبالتالي لا تكون لبلادنا هوية يتم بموجبها البيعة والسمع والطاعة، وغير ذلك مما تقرره العقيدة الصحيحة، ولذلك قلت اللبرلة والأخونة وجهان لعملة واحدة.

وأما أنهما يتخادمان، فنعم هذا واقع، وكشاهد على ذلك انتشر مقطع «بالصوت والصورة» لبعض المتعاطفين مع (الحركات الإسلامية) يسألون شيخهم، قائلين: لا يخفى القمع الذي يُمارس مع دعاة، وتضييق الحريات، وسلب الخيرات والثروات، فهل من التكتيك المطلوب: التعاون مع الليبراليين والعلمانيين الذين يشتركون معنا في الطريق، إذا ليس كل ليبرالي ملحدا، فهناك منهم فَسَقَة في رأينا، وقد تكون لهم كتابات وتغريدات في بعض المواسم فيها إيمانيات عجيبة.

فجاء جواب شيخهم: بأن التعاون معهم -الليبراليون- مشروع، لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- استعان بالمشركين في بعض غزواته.

ولي مع هذا السؤال والجواب وقفات:

الوقفة الأولى: مَنْ هو هذا العدو المشترك للإخوانيين والليبراليين الذين يرون من باب التكتيك أن يتعاونوا ضده؟ وما سبب عداوتهم له؟

فجزما أن تنظيم الإخوان المسلمين وغيره من الحركات الحزبية المنتسبة للإسلام، لا يعادي نظام طهران، بل هو متفق معه، وقد قال أحد قادة التنظيم -وهذا موثق بالصوت والصورة- نحن نستمد منهجنا من حسن البنا ومن سماحة آية الله الخميني، لم يقل: نستمد منهجنا من رسول الله محمد، عليه الصلاة والسلام.

وجزما كذلك أن التنظيم لا يعادي الغرب، فهما معا متعاونان في إحداث الثورات وسفك الدماء في بلاد العرب والمسلمين، ونعلم أن التنظيم وأتباعه متواطئ ومتفق مع نظام قطر الذي يتربص ببلادنا السوء، وهكذا الليبراليون (فبعضهم) أدوات لمنظمات مشبوهة.

إذن: من هو العدو المشترك لهما؟

إن كانوا يقصدون المملكة العربية السعودية فقد ضلوا ضلالا بعيدا، وخسروا خسرانا مبينا، فالمملكة العربية السعودية -يا من تُشْغِبون عليها- فيها المشاعر المقدسة، والحرمان الشريفان، وفيها هبط الوحي، وقادتها أنصار العقيدة الصحيحة، وخدام الحرمين الشريفين، والحاكمون بالكتاب والسنة، والناصرون لكل مكروب ومحتاج، الباذلون أرواحهم خدمة للإسلام والمسلمين، المعتنون بخدمة شعبهم وتقدمهم وتطوره، فعداء السعودية -كما قال الشيخ ابن باز- عداء للتوحيد؟

الوقفة الثانية: ما مقصودهم بالدعاة، لأن لفظ (دعاة) مجمل، فهناك (دعاة إلى الله)، وهناك (دعاة إلى أحزاب وتنظيمات) فأيهما يريدون؟

فإن قصدوا الدعاة إلى الله، وأنهم يُقمعون في بلادنا السعودية، فهذا غير صحيح: فالدعاة إلى الله لم يُقمَعوا في بلادنا السعودية إطلاقا، طوال تاريخها الممتد منذ ثلاثمئة سنة وحتى اليوم، بل لولا الله ثم ما تبذله الدولة من نشر للعلم وتشجيع لأهله، لما تعلموا وصاروا علماء ودعاة إلى الله، وكل منصف يعلم أن العلماء الراسخين في بلادنا لهم مكانة وتقدير لدى ملوك هذه البلاد السعودية العزيزة، كما هو ظاهر لكل أحد.

وإن قصدوا دعاة الأحزاب والضلالة، فنقول: هؤلاء لا يجوز أن يُمكَنوا من نشر ضلالهم في المجتمع، بل يجب إصلاحهم، فإن صلحوا واستقاموا فالحمد لله، وهذا هو المطلوب، والتوبة تجب ما قبلها، وإن استمروا على ضلالهم تم الأخذ على أيديهم حسب ما تُوجبه الشريعة التي يحكم بها القضاة، حماية للمجتمع من ضلالهم وأخطائهم، بل وحماية لأنفسهم من سيئات أعمالهم، وشرور أنفسهم.

وأما الحريات: فما مقصودهم بها، إن قصدوا حرية الإساءة لديننا ووطننا ومجتمعنا، والتهييج والإثارة، فهذا أمر تنهي عنه الشريعة، ولما قال ذو الخويصرة للرسول -عليه الصلاة والسلام- كلمة زايد فيها على الشريعة ومن جاء بها، وقد ساقها مساق الغَيرة على الإسلام والعدل، لم يقل النبي -عليه الصلاة والسلام- لا بأس بقوله من باب: حرية التعبير، والرأي والرأي الآخر، وإنما نهره، ووصفه بأسوأ وصف، وبيّن أن من ضئضئه يخرج قوم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وتهددهم بالقتل، وقال: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ضرب بعراجينه صبيغ بن عسل لما صار يورد المتشابهات على الناس، ولم يقل: نتركه من باب الحريات.

وإن قصدوا الحرية التي كفلها الإسلام، فهي مكفولة بحمد الله في بلادنا، يشعر بذلك كل مواطن سلم من الحزبيات والأهواء المضلة.

إن دعاة الحرية المنفلتة من أهل الفسوق والعصيان ليسوا أحرارا، وإنما هم في الواقع عبيد لأنفسهم وشهواتهم وأحزابهم، هربوا من الرق الذي خُلقوا له (وهو العبودية لله)، فبُلوا برقِّ النفس والشيطان.

وأما قولهم (سلب الثروات) فهذا المال هو مقصد جميع الحركات والأحزاب، والمُحرِّك لهم، كما هو مقصد الخوارج من قبل، ولهذا نجد رئيس الخوارج إنما اعترض على قسمة النبي -عليه الصلاة والسلام- الأموال، فهم طلاب مال ومناصب، لكنهم يفعلون ذلك باسم الدين والإصلاح، تلبيسا وخداعا.

والذين اتهموا الخليفة الراشد عثمان -رضي الله عنه- بسوء التصرف بالمال، لما قتلوه سلبوا بيت المال، وقالوا حلّ لنا دمه، أفلا يحل لنا المال.

فدعوى (سلب المال) شعار مكرر لأهل الباطل، يتوارثون ادّعاءه لمنازعة الحكام، وهي دعوى داحضة، ولو كانوا يعقلون لعملوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليهم -أي الحكام- ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتم)، فكلٌّ سيسأله الله عن ما حُمِّل، لكنهم ينسون أنفسهم، ويشتغلون بغيرهم، مخالفين بذلك حديث: (وألا ننازع الأمر أهله).

الوقفة الثالثة: جواب شيخهم العجيب، واستدلاله الغريب، وقياسه الخطير، ومن التناقض: أنهم أقاموا الدنيا ولم يُقعدوها لما استعانت بلادنا بغير المسلمين لدفع الصائل علينا في حرب الخليج، حتى إني سمعت آنذاك من يقول إن ذلك من نواقض الإسلام، بينما الآن يجوز التعاون -في نظرهم- مع المشركين فضلا عن المسلمين من الليبراليين لتحقيق هدفهم الخبيث، فنعوذ بالله من الهوى والعمى، ونسأله الهدى والتقى.

الوقفة الرابعة: خطورة التهور في الحكم على عباد الله من أهل الإسلام، فذاك في نظرهم: ملحد، وذاك فاسق، ولا ريب أن الحكم بالتكفير والتبديع والتفسيق هو من اختصاص قضاة المسلمين، فهم الذين يصدرون الأحكام، بعد معرفة انطباق الشروط والموانع، والنظر في الأدلة الشرعية، وليست كلأً مباحا لكل أحد، ولا يخفى الآثار السيئة على وصف المسلم بالإلحاد أو الفسق أو الإرهاب أو الخيانة، بمجرد الظن والهوى والاصطفافات الحزبية.

الوقفة الخامسة: إننا لسنا بحاجة إلى ليبرالية ولا إخوانية ولا غيرهما من الفرق والمذاهب، التي ما جاءتنا بخير، يكفينا الإسلام الذي جاء به نبينا محمد، عليه الصلاة والسلام، وسار عليه الصحابة ومن تبعهم بإحسان، وصدق الله القائل (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير).