(أولا)

سلوة من لا صديق لهم -سيئو الظن بالصديق- وعزاؤهم علي بن محمد بن العباس، الشهير بأبي حيان التوحيدي (ت:414هـ)، وسلفه الأشد تزمتا تجاه الصداقة، محمد بن خلف بن المرزبان البغدادي (ت: 309هـ)، يُجمعان على ندرة الصديق أو انعدامه، وأنه كالكبريت الأحمر عزيز الوجود، وعزيز المنال، لذا ألفّ الأول كتابا أسود عن الصديق تحت عنوان مخاتل: (الصداقة والصديق) استعان فيه بمقولات من يرى أن الصديق بمثابة ملاك معصوم عن الخطأ والعيب، استطاع أبوحيان التوحيدي بذكاء توظيف تلك المقولات الغارقة في المثالية لتخدم رأيه الكئيب عن الصديق، حينما توسل بها إلى عدم إمكانية وجود نموذج الصديق في الدنيا، إذ إنه حينما يستشهد بقول يمتدح الصديق وطباعه، فإنه يشير بمفهوم كلامه إلى أن هذا هو المفترض الذي يخالفه الواقع، فيجعل تلك العبارة أو المقولة دليلا على استحالة وجود هذا الأنموذج البشري في الدنيا، ولو وجد فإنه يجب أن يكون على تلك المثابة عزيزة المنال.

كان أبوحيان سليط اللسان، قليل الاهتمام بمظهره، ينفر الناس منه لذلك، وهذا سبب أصيل في سوداوية رأيه في الناس، أقول هذا إنصافا، حتى لا يؤخذ كلام أبي حيان كالمسلمات عن الصديق، والتوحيدي حينما تكلم عن الصداقة، لم يترك شاذة ولا فاذة إلا وتناولها في رسالته، إذ تكلم في مزايا الأصدقاء وعيوبهم، وفي القطيعة والهجر، وحفظ العهد، وتضحية الأصدقاء، وفي العداوة ومكر الأعداء، وفي النفاق والتزاور بين الأصدقاء والحنين وخيبة الفراق، وما إلى ذلك، كل ذلك على سبيل أن الصديق إن لم يكن على هذه الصفات فليس بصديق.

يقول زكي مبارك في كتابه الماتع: (النثر الفني في القرن الرابع الهجري، ص 443) عن كتاب أبي حيان هذا: (ابتدأ هذا الكتاب بزفرة، وانتهى بزفرة). وأقول: ما بين الزفرتين، أجاد التوحيدي أيما إجادة في وصف الصداقة، وأسفَّ كل الإسفاف في نكران الصديق.

(ثانيا)

أما ابن المرزبان، والذي مات قبل عشرة قرون تقريبا، ولم يمت كتابه ولا رأيه في لابسي الثياب.

فقد جاوز الحد في الإساءة حينما عنون مصنفه: (تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب)، وبغض النظر عن أن الغرب السابق لنا في الحضارة وفهم الطبيعة البشرية أقر بفحوى مصنف ابن المرزبان آنف الذكر عمليا، فصار الكلب مقدما عندهم حتى ورَّثوه، بل أضحى أقرب من أصفى الأبناء فضلا عن الأصدقاء، غير أن هذا لا يخرج ابن المرزبان من معرة تسميته مصنفه بهذا الاسم، وإن كنت ألتمس له بعض العذر في أنه إنما ألَّف مُؤَلَّفه ابتداء لذكر فضل الكلاب على شرار الإخوان كما في بعض النسخ، وليس لمسبَّة الإخوان والأصدقاء.

وسبب تأليف هذا الكتاب: هو أن صديقا له اشتكى زمانه وفساد مودة أهله، وأن أبعد الناس سفرا من كان سفره في طلب أخ صالح، ومن حاول صاحبا يأمن زلته ويدوم اغتباطه به كان كصاحب الطريق الحيران الذي لا يزداد لنفسه إتعابا إلا ازداد من غايته بعدًا، فقال: (اعلم أعزك الله أن الكلب لمن يقتنيه أشفق من الأخ الشقيق على أخيه، وذلك أنه يحرس صاحبه ويحمي حريمه شاهدا وغائبا، ونائما ويقظان، ولا يقصر عن ذلك وإن جفوه، ولا يخذلهم وإن خذلوه).

(ثالثا)

القارئ للكتابين السابقين سيجد أن المؤَلِفين لم ينكرا وجود الصداقة، لكنهما قالا بمفهوم الكلام، وبفحوى الخطاب ولحنه بعدم إمكانية وجود الصديق، أو ندرته الشديدة.

وفي هذا الصدد أذكر حوارا قديما مع صديق حول قضية الصداقة، أو بصورة أدق المواصفات التي نرجوها في الصديق الذي دونه كل الأصدقاء، فوجدت مني ومنه أننا عند تناول هذه القضايا على شكل حوار أو خواطر ذاتية ينصب الحديث أو التفكير فيها حول حقوقنا على الأصدقاء، ومواصفات الصديق المفصَّلة على قياساتنا، فأنا مثلا -وأجزم أن كل أحد مثلي تقريبا-: أريد صديقا يحزن إذا حزنت، ويفرح إذا فرحت، ويتراجع إذا غضبت، ويهون إذا عززت، ويمد يد العون لي إذا احتجت، إلى آخر ما هنالك من مواصفات نزعم أنها حقوق أنانية لا تنظر إلا إلى صاحبها وما يريد، كل هذا بغض النظر عن الطرف المقابل: وهل هو حال حزني فرحا؟ أو حال غضبي غضبانَ؟ أو حال فرحي حزينا؟ المهم أنا! أن يفرح إذا فرحت حتى لو كان حزينا، ويرضى ويسكت إذا غضبت ولو كان في وضع نفسي لا يسمح له بهذا الخلق، والقانون الذي يفرض عليه هذا كله هو (الصداقة) المزعومة، ولكن لنفرض جدلا أننا -أنا وإياك- وجدنا هذا الرجل الطيب النادر كريم السجايا والخصال، وفزنا بصداقته، السؤال المهم الذي يطرح نفسه بإلحاح: متى يجد هذا الصديق صديقه الذي دونه كل الأصدقاء بمن فيهم أنت؟

(رابعا)

إن علاقة الصداقة قد تبدو أحيانا هدفا مثاليا وليس واقعيا، وتفسير ذلك: أن الحب والكره من العواطف التي يمكن أن تتغير وتتبدل، فينقلب الحب كرها أو الكره حبًّا، ولا صداقة بدون حب بطبيعة الحال، كما أن الإنسان لا يعيش بالصداقة وحدها، فالحياة اليومية للإنسان لها متطلباتها ومسؤولياتها، ولها قواعدها التي لا تسمح لمثل هذه العلائق بالاستحكام، والتحكم في الحياة، وبالتالي فإن طبيعة المجتمع والارتباطات والثقافة السائدة ترسم أشكالا مختلفة من العلاقات الإنسانية لا نستطيع ضبطها بميزان معين، أو تحديدها ضمن إطار محدد، فهي إما إلى زوال أو إلى أفُول، إذ إن السبب في وجودها زائل أو مضمحل.

(خامسا)

نقل أبوحامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين (2/179) عن الحريري تأييدا لما جاء في رابعا، ويؤيد ما ذهب إليه ابن المرزبان، والتوحيدي أبناء القرنين الثالث والرابع الهجريين، والذي قال الحريري رأيه الآتي عنهما -أي عن القرنين- إذ قال: (تعامل الناس في القرن الأول بالدين، حتى رقّ الدين، وتعاملوا في القرن الثاني بالوفاء، حتى ذهب الوفاء، وفي الثالث بالمروءة، حتى ذهبت المروءة، ولم يبق إلا الرهبة والرغبة.).

ولعل مقصد الحريري من الرهبة والرغبة: قضية المصلحة المسيطرة على علائق الناس من ذلك الزمان وحتى هذا الزمان.

(أخيرا)

جاء لفظ الصديق في القرآن الكريم في موضعين، وفي كلا الموضعين ذكر اللفظ مفردا، الأول في سورة النور في قول الله تعالى: (...وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ) إلى أن قال عز من قائل: (...أَوْ صَدِيقِكُمْ)، لاحظ هنا أن الله -سبحانه وتعالى- في أول الآية ذكر الأشياء بلفظ الجمع: بيوتكم، آبائكم، أمهاتكم، إخوانكم، أخواتكم، أعمامكم، أخوالكم، خالاتكم، ثم قال: (أَوْ صَدِيقِكُمْ) ولم يقل: أو أصدقائكم.

أما الموضع الثاني فهو في سورة الشعراء في قوله تعالى: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ)، فشافعون جمع، وأما الصديق فمفرد، فلماذا أفرد الصديق هنا؟

المفسرون ذكروا تعليلا لطيفا، إذ قالوا: إن الله تبارك وتعالى أفرد الصديق لأنه لا يوجد الصديق الحميم إلا نادرا، وهم بذلك يشاركون المرزبان والتوحيدي في إعلاء شأن الصداقة، وذم الصديق.