مشهور على الألسنة، حديث: «إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»، وحديث: «وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»؛ وللعلماء المحققين في تعريف البدعة من الناحية الشرعية مسلكان مشهوران: الأول، لخصه الإمام العز بن عبدالسلام؛ حيث قال في كتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام): «البدعة فِعْلُ مَا لم يعهد في عصره صلى الله عليه وسلم، وهي منقسمة إلى: بدعة واجبة، ومحرمة، ومندوبة، ومكروهة، ومباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة»، وأكد الحافظ ابن حجر العسقلاني هذا المعنى؛ حيث قال في كتابه (فتح الباري): «وكل ما لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم يسمى بدعةً، لكن منها ما يكون حسنًا، ومنها ما يكون بخلاف ذلك»؛ أما المسلك الثاني: فالبدعة عند أصحابه هي المذمومة والمحرمة فقط، وممن ذهب إلى ذلك الإمامُ ابن رجب الحنبلي، إذ قال في كتابه (جامع العلوم والحكم): «المراد بالبدعة ما أُحْدِثَ ممَّا لا أصل له في الشريعة يدلُّ عليه، فأمَّا ما كان له أصلٌ مِنَ الشَّرع يدلُّ عليه، فليس ببدعةٍ شرعًا، وإنْ كان بدعةً لغةً»..

 المسلكان السالفان اتفقا على حقيقة مفهوم البدعة المذمومة شرعًا، والاختلاف في المدخل للوصول إلى المفهوم المتفق عليه، وهو أن البدعة المذمومة التي يأثم فاعلها؛ هي التي ليس لها أصلٌ شرعي يدل عليها، وهي المرادة من قوله صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة»؛ وهذا الفهم سار عليه الفقهاء والعلماء المتبوعون، يقول الإمام الشافعي: «المحدثات من الأمور ضربان؛ أحدهما: ما أحدث مما يخالف كتابًا أو سُنَّةً أو أثرًا أو إجماعًا، فهذه بدعة الضلالة، والثاني: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة»، ويقول الإمام الغزالي: «ليس كل ما أبدع منهيًّا عنه، بل المنهيُّ عنه بدعةٌ تضاد سنةً ثابتةً، وترفع أمرًا من الشرع»، ويقول الإمام ابن الأثير: «البدعة بدعتان: بدعة هدًى، وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به، ورسولُه صلى الله عليه وسلم، فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعًا تحت عموم ما ندب إليه وحض عليه اللَّه، أو رسوله، فهو في حيز المدح، وما لم يكن له مِثال موجود كنَوْع من الجُود والسَّخاء وفِعْل الـمعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أَن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به..»..

ما سبق يتكرر الكلام عنه، وفيه يجري الخلاف بشكل مستمر، ويرمي الناس بعضهم بعضا به؛ والخلاصة التي يمكن الاطمئنان إليها، هي أنه ليس كلُّ مُحدَث منهيًّا عنه، والزعمُ بأن كل محدث أمر محرم اتِّكاءً على المسمى؛ غيرُ سديدٍ، ويسد باب الاجتهاد في تقريب الخلق من رضا خالقهم، سبحانه وتعالى، وباب تقريب الدين إليهم، بل ويحول الدين إلى عقبة أمام الأعمال الصالحة، التي لم يرد نص قطعي بتحريمها، أو تحديد وقت فعلها، أو طريقة تأديتها.