اهتمت دول العالم المتقدم في نظامها التعليمي بإدراج لغتين إلى جانب اللغة الأم للدولة، كمنهج تربوي يهدف للاستفادة من ثقافات وعلوم المجتمعات الأخرى، وبما يسهل عملية التواصل الحضاري وتبادل المعرفة والعلوم وغيرها من وسائط التبادل الثقافي والاجتماعي بين دول العالم المختلف، وقد استند ذلك في أطره ومنهجه على أولويات ومعايير وأسس تدعو لتحديد تلك اللغات بعينها، كثقافة داعمة في التعليم إلى جانب اللغة الأم للدولة، وعليه تم اختيار لغتين أو لغة واحدة أو أكثر، كلغات مساندة وكثقافة مضافة للثقافة الوطنية.

 وعليه فإن اختيار تلك اللغات المضافة لم يكن عشوائياً في أي دولة، وإنما استند على مقومات سياسية واقتصادية واجتماعية فرضت نفسها على الدول، وذلك بناء على ما تمثله لها تلك اللغات بدولها الحاضنة لها، من أهمية متباينة على النطاق الوطني والإقليمي والعالمي، والذي أهلّها دون غيرها من اللغات لأن تكون اللغة الثانية أو الثالثة في الدولة.

 وعلى الرغم من تباين درجة التأثير لتلك المقومات على الدول، فإنه مما لا يمكن إنكاره أن التأثير كان واسعاً وشاملاً، بحكم أن جميع دول العالم، لا تخرج عن كونها؛ إما أنها تمُثل جزءا من منظومة عالمية ترتبط بعلاقات مختلفة مع بعضها البعض، وإما أنها ترتبط بعلاقات خاصة بالدول المؤثرة فيتعمق التأثير وتزداد درجته، بحكم التبعية الثقافية والاقتصادية والسياسية؛ ولذلك فمن المهم تسليط الضوء على بعض من تلك المعايير والأسباب، التي أدت إلى استحواذ اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية والبرتغالية على نظام المنهج التعليمي لكثير من الدول، كاللغات مضافة للغة الأم في معظم دول العالم من الشرق والغرب، ولعقود طويلة من الزمن.

 لقد كان لمعيار القوة والزعامة والتسلط، اليد الطولى والعامل المسيطر الذي فرض نفسه لتكون اللغة الإنجليزية فالفرنسية أكثر اللغات رواجاً في العالم وليس الأكثر تحدثاً بالمقياس السكاني، إذ اكتسبت بريطانيا قوتها الاقتصادية والسياسية الكبرى، على أثر اكتشافها الفحم كمصدر للطاقة، والذي ساهم في تطور وسائل النقل والصناعة، وكان سبباً في تغذية دوافعها وأطماعها نحو التوسع في أراضيها بالاستعمار لأراضي المعمورة شرقاً وغرباً، وقد حاكتها في ذلك منافستها الإقليمية آنذاك فرنسا، فتقاسمتا كلتاهما الأدوار في أراضي الدنيا المعروفة آنذاك، ولحقت بهما كل من إيطاليا وإسبانيا والبرتغال في البقية الباقية، وهولندا وألمانيا في القليل الآخر، وعلى أساس ذلك التاريخ السياسي تم بناء امبراطوريات اقتصادية مرتبطة بالدول الأم المسْتَعْمِرة بلغاتها وبمجتمعاتها، وأصبحت تلك الدول المستعْمِرة هي القبلة الحضارية والثقافية والسياسية والاقتصادية لمعظم شعوب المعمورة التي رضخت تحتها، والذي أهلَها لأن تقود ذلك التوجه الحضاري والثقافي العالمي نحو الاهتمام بلغاتها ونشرها على نطاق واسع.  وفي ظل ذلك التطور الهائل الذي تشهده دولة الصين على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وما ينتظرها من مستقبل واعد بزعامة عالمية تمكنها من السيطرة على مقاليد السياسة الدولية والاقتصاد العالمي، بحكم تقدمها الصناعي وتفوقها السكاني، وفي إطار ما هو قائم من تعزيز لأواصر العلاقات الاقتصادية والسياسية الوطنية مع دولة الصين، كتوجه نحو تحديث وتنويع التحالفات الدولية المطلوبة، وكإحدى وسائل تنويع شركائنا الدوليين لتحقيق إستراتيجياتنا الوطنية والإقليمية والدولية؛ وفي ضوء ذلك، فإن التساؤل الذي يطرح نفسه، هل يُعد ذلك جميعه مُبرراً لأن نُقحِم اللغة الصينية كلغة ثانية يحتويها منهجنا التعليمي النظامي في المدارس والجامعات، كما تم التصريح به من مسؤولي وزارة التعليم؟؟!!

 ولعله مما تجدر الإشارة إليه وتوضيحه، أنه إذا كانت اللغة الصينية تُعد من اللغات الأكثر تحدثاً في العالم في وقتنا الحاضر، وإنها الدولة الأهم في السنوات العشر القادمة، فإن ذلك الانتشار يعود لتفوقها السكاني مقارنة بجميع دول العالم، إذ تشير إحصاءات الأمم المتحدة بأن عدد سكان الصين للعام 2018 بلغ 1.4 مليار نسمة، وقد احتلت المرتبة الـ86 في مقياس التنمية البشرية، في المجموعة المصنفة من التنمية البشرية المرتفعة، وليست من مجموعة المرتفعة جداً والتي تضمنت السعودية في المرتبة الـ39، وبالطبع فإن ذلك لا يعني انتقاصاً أو تحجيماً لما توصلت إليه الصين من تفوق وتقدم تخشاه حتى الدول المتقدمة، وإنما يدعو لأهمية ملاحظة أن هناك معايير دولية لا بد وأن تؤخذ في الاعتبار، وهي الحجم السكاني وتأثيره على التنمية، وإن كثرة المتحدثين باللغة لا يعني ضرورة رواجها وانتشارها.  ومن جهة أخرى فإن عدد سكان العالم البالغ 7.6 مليارات نسمة في العام 2018، يشير إلى أن الصينيين يكادون يمثلون الثلث من سكان العالم، أما المتحدثون باللغة الصينية فهم نحو 848 نسمة من الصينيين، حيث إن هناك أقليات بها تتحدث لغات محلية أخرى، أو لغات مجاورة لها، وبالمقابل فإن اللغة الصينية تنتشر في الدول المجاورة لها، أو بالأحرى المقاطعات الإدارية القريبة من الصين والمحسوبة عليها مثل: تايوان وهونج كونج ومكاو، وكذلك في سنغافورة وإندونيسيا وماليزيا بحكم تواجد الصينيين فيها كأقليات كبيرة، ولذلك ارتفعت نسبة المتحدثين بها للمرتبة الأولى عالمياً، وليس لأهميتها كلغة عالمية وإنما لكثرة عدد المتحدثين بها من الصينيين ومن شعوب الدول المجاورة لهم.  ومن المعروف أن اللغة الصينية تُعد من أكثر لغات العالم تعقيداً في كتابتها وتعلمها وفي الحديث بها، كما أنها أكثرها حروفاً بل وتختلف في بنائها تماماً عن لغتنا الأم واللغات الأخرى الشائعة، وعليه فهل من الحكمة إدخالها كلغة ثانية ضمن منهجنا التعليمي في المدارس والجامعات؟!، أم أنه من الأفضل وضعها كمسار لغات في التخصصات الجامعية، وكمقرر اختياري في المدارس والجامعات، للإلمام بمبادئها لمن يدفعه شغفه ورغبته نحو ذلك؟! وكما يمكن تضمينها كدورات مكثفة برعاية الغرف التجارية ووزارة العمل والتعليم والصناعة وغيرها من الوزارات المعنية بالتنمية البشرية والاستثمار والتجارة، لا يخفى علينا أن القرار اهتم باستيعاب التوجه الإستراتيجي نحو استدراك الحاجات المستقبلية، واستشراف متطلبات التقنية والشراكة الدولية، وكمواءمة مع سياق العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية للمملكة، ولكن هل جميع ذلك يُعد مبرراً لإقحامها ضمن المقررات الدراسية النظامية، وأن يكسبها الإيجابية المنظورة التي بُني على أساسها القرار؟ وباستقراء مستوى جودة مخرجاتنا التعليمية من اللغات الأخرى، فإن التساؤل المطروح؛ أليس الأهم والأولوية، بأن نُحسّن ونُعزز من جودة ما تعلمناه من لغات أخرى، لنستفيد منها فعلياً في التداول والمعاملات التجارية والعلاقات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة؟!، أم أن نُقحم لغة جديدة مُعقدة لنكتشف بعد سنوات من الجهود والنفقات أننا أخطأنا في القرار، لنعود للبداية الأولى؟! ولعله مما يجب التنويه إليه، أن الصينيين أنفسهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تقدم، إلا بعد أن تعلموا لغات الغرب ليستقوا منها أسس التقدم العلمي فقلدوهم بدايةً، حتى تمكنوا من الإبداع والابتكار بعد عقود من الجهود الحثيثة، والإنفاق المستمر على جودة التعليم والبحث العلمي، ليثمر ذلك عن التنين الصيني المبدع المبتكر في صورته الحالية وإستراتيجيته المرتقبة بعد عقد من الزمان.