الأزمة الفنزويلية الحالية التي تتمثل في المواجهة السياسية بين الرئيس المنتخب نيكولاس مادورو وغريمه خوان غوايدو الذي أعلن نفسه رئيسا، مرشحة لأن تتحول - كما يرى البعض- إلى ما يمكن اعتباره حربا أهلية في حال لم يتوصل الجانبان لحلول وسط، تخرج البلاد من حالة الاصطفاف السياسي والعسكري، التي تجد لها سندا لدى الجانبين من القوى العظمى التي لها مصالح في هذا البلد الغني بنفطه، الفقير بسياساته الاقتصادية، والمقسم طبقيا بين جناح رأس مالي ميال للغرب، وجناح اشتراكي على النمط الكوبي وجد ضالته منذ عقود لدى أباطرة اليسار السياسي في الصين وروسيا.

في الداخل الأميركي هناك قرار إستراتيجي بإزاحة الرئيس مادورو عن الحكم، في وقت حاولت واشنطن لسنوات الإطاحة بمعلمه هوغو شافيز دون أن تتمكن من ذلك، فمادورو الذي يرأس البلاد منذ عام 2013 لم يتمكن من أن يعيد كراكاس إلى حالة التوافق، مع محيطها الأكبر عبر مد جسور التعاون والتفاهم مع الغول الأميركي، كما جرى في دول أخرى حول العالم، بل عمل على الركوب على موجة شافيز الثوري الذي تحول من رئيس لدولة إلى ما يشبه زعيم جماهيري في القارة اللاتينية، وربما وريث فيديل كاسترو في قيادة جبهة الممانعة اللاتينية ضد الهيمنة الأميركية.

أميركا تتوعد اليوم مادورو بالتهديد والوعيد من خلال عدد من الإجراءات الصارمة، فإلى جانب الضغط الاقتصادي الذي مارسته منذ سنوات لشل الاقتصاد الفنزويلي، تقوم اليوم بتحركات عسكرية على الحدود الفنزويلية الكولومبية، بهدف زيادة الضغط على مادورو من أجل التنازل لصالح غوايدو، الذي يوصف بصنيعة الغرب، خصوصا وأنه لم يكن له أي تاريخ نضالي أو سياسي قبل بضع سنوات.

التدخل العسكري الأميركي المحتمل لإسقاط مادورو يأتي كما يراه محللون انطلاقا من مبدأ «مونرو» الذي وضعه الرئيس الأميركي السابق «جيمس مونرو» عام 1823، والذي يرفض فيه أي تواجد أو تدخل لأي قوى أوروبية، احتلالا أو استعمارا لأي دولة في قارة أميركا اللاتينية، واليوم وحيث إن مادورو هو من وجهة النظر الأميركية جزء من معسكر روسيا الصين، فإن بقاء هذا الرئيس المنتخب لا يعني سوى الموافقة على تواجد تلك القوتين في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، وهو أمر لا يمكن القبول به إطلاقا.

أزمة الصواريخ الكوبية التي وقعت في الستينات بين أميركا والاتحاد السوفيتي، تشبه إلى حد كبير مسببات الأزمة الفنزويلة الحالية، فروسيا كما أشارت تقارير استخباراتية، قامت بالفعل بنشر قاذفات إستراتيجية من طراز «تي يو 160 بلاك جاك» في الأراضي الفنزويلية، والدور الروسي والصيني المتعاظم في أميركا اللاتينية يجعل التحرك الأميركي مسألة حياة أو موت، من وجهة نظر الصقور في إدارة الرئيس ترمب ولدى أعضاء من مجلس الشيوخ بالعموم، وبالخصوص من ذوي الأصول اللاتينية، وعلى رأسهم السيناتور الجمهوري «ماركو روبيو».

مبدأ مونرو لم يكن أبدا مجرد حبر على ورق كما قد يتبادر للذهن، بل هو مبدأ تم تطبيقه في العديد من الحالات خلال العقود الماضية، ففي عام 1979 تدخلت أميركا عسكريا في السلفادور من خلال دعم انقلاب عسكري نتجت عنه حرب أهلية طاحنة، راح ضحيتها ما يفوق سبعين ألف قتيل، كما تدخل الجيش الأميركي في أكثر من مناسبة، في بنما وتحديدا عام 1990 عندما أطاحت الماكينة العسكرية الأميركية بالرئيس مانويل نورييغا واقتادته للسجون الأميركية حيث مات فيها عام 2017.

كما أرسل الجيش الأميركي عام 1907 إلى جمهورية الدومنيكان، إضافة إلى إرساله إلى كوبا والهندوراس عام 1912، إلى جانب عمليات عسكرية في هاييتي وغواتيمالا، إضافة إلى نيكاراغوا التي تدخلت فيها مرتين مختلفتين، كما دعمت أميركا عام 1976 انقلابا عسكريا في الأرجنتين، إضافة لمحاولة اغتيال مادورو قبل نحو عامين أثناء عرض عسكري، نفت واشنطن أي تدخل في العملية.

كل ذلك الإرث التاريخي في التدخلات الأميركية تواجهه اليوم مصالح دول لن تبقى مكتوفة الأيدي، وستعمل كل ما بوسعها في الإبقاء على الرئيس مادورو سيدا للبلاد، فكوبا من جانب تخشى انتقال فنزويلا بعيدا عن الحكم الشيوعي، الأمر الذي إن تحقق سوف يأتي مصحوبا بفقدانها للشحنات الضخمة والمجانية من الوقود الفنزويلي، كما أن فنزويلا لا زالت مدينة للصين بأكثر من 23 مليار دولار تسددها بصادرات النفط الخام، أما روسيا فهي تدعم مادورو من جانب لأن الحكومة الفنزويلية تدين بمبالغ طائلة من الديون للشركات الروسية، ومن جانب آخر لكون فنزويلا من الناحية الجيوسياسية، موقع مثالي للضغط على الولايات المتحدة، إلى جانب باقي الدول في المحيط الأميركي التي تتجه شيئا فشيئا نحو الشرق، إما خوفا من تنمر أميركا المتواصل، أو حبا في حضن متنمر آخر، تتقاطع أفكاره ومصالحه مع رغبات المواطن البسيط الفقير المؤمن بأفكار الاشتراكية ومعاداة ورفض الإمبريالية الغربية.