وليد الشهري



الحلم «بكسر الحاء» في اللغة: العقل والأناة وضبط النفس. والحلم هو أعلى مراتب الصبر، وأرقى خصال الأخلاق، ولذلك يروى عن الإمام علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه- قوله: الحلم سيد الأخلاق.

يقول الأحنف بن قيس، وهو ممّن عرفوا بحلمهم: ما عاداني أحد قط إلا أخذت في أمره ثلاث خصال: إن كان أعلى منّي عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعتُ قدري عنه، وإن كان نظيري تفضّلتُ عليه.

وللحلم مكانة عظيمة في الإسلام، وقد كان نبيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أحلم الناس بالناس، ولو لم نستشهد على ذلك إلا بقوله لأهل مكة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، لكفى.

ولا يخفى عنّا أن عفوه -صلى الله عليه وسلم- كان عفو القوي المقتدر، الذي لو أراد أن ينتقم من جميع أولئك الذين جرّعوه أصنافا من العذاب والتسفيه والافتراء، لما أعجزه ذلك، لكنّه عفا عفو الكريم المترفّع المشفق الذي لا يحمل ضغينة تجاه من أساؤوا إليه، وهذا هو عين الحلم.

يقول ابن حبان في «روضة العقلاء»: «الحلم أجمل ما يكون من المقتدر على الانتقام، وهو يشمل المعرفة والصبر والأناة والتثبّت، ومن يتّصف به يكون عظيم الشأن، رفيع المكانة، محمود الأجر، مرضيّ الفعل، ومن أجل نفاسته تسمّى الله به فسُمّي حليمًا»، كما أنّ الحلم صفة يحبها الله تعالى، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال للأشج: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة».

ولو تأملنا بنظرة متفحصة ما يحدث اليوم من ظواهر اجتماعية سلبية، لوجدنا أن باعثها الأول هو قلّة الصبر وانعدام الحلم والأناة، فإحصاءات الطلاق المتزايدة، ومآسي الحوادث المرورية شبه اليومية، وجرائم الاعتداء والقتل بداعي التشفي والانتقام، أو بسبب اختلاف حول أمر من أمور الدنيا، كل ذلك وغيره يشي بغياب «سيد الأخلاق» عن حياتنا.

الحلم صفة لازمة لكل عاقل حكيم، والحليم إذ يصفح عمّن أساء، ويعفو عمّن ظلم، ويترفّع عن ردّ السيئة بمثلها، فهو بذلك قد عرف لنفسه قدرها، ونزّهها عن الخوض في مستنقع الجهل والحماقة، والقوي بحق هو الذي يتمكّن من ضبط نفسه وكبحها عمّا يهوي بها إلى حضيض البذاءة والإسفاف وموجبات الحسرة والندم، وليس من أطلق لها العنان لتتعاطى مع كل موقف كيفما اتفق، وقد أشار إلى ذلك سيّدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قال: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»، كما أنّ مقتضى الحلم لا يقتصر على تعامل الناس مع بعضهم بعضا فحسب، بل يتجاوز ذلك ليشمل الأناة والتروّي في جميع شؤون الحياة.

في الختام، للحلم والصبر مشقّة مرحليّة يكابدها من قرّر اتخاذ الخطوة الأولى نحو اكتسابها، حتى يجعلها التكرار عادةً، وحينئذ تزول مشقّة التكلّف، فيصبح الحلم طبعا لدى الحليم، والصبر طبعا لدى الصبور، ولذلك يقول نبيّنا، صلى الله عليه وسلم، «إنما العلم بالتعلّم، والحلم بالتحلّم، والصبر بالتصبّر».