في حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في لندن عام 2012، عاشت لندن لحظات لا تنسى وهي تستحضر تراثها الأدبي والتاريخي في حفل حمل شعار (Inspire a

 generation ) ألهم جيلا، فمثل هذه المناسبات تعتبر الطريق الأسرع لعرض ثقافات وموروثات الشعوب. ومن شعار الحفل أراد المنظمون تمرير رسالة مهمة للأجيال القادمة، أجيال المستقبل، أن الإلهام لا يكون إلا عبر الارتباط الوثيق بالموروث، لذلك أخذ تراث الأدب الإنجليزي الحيز الأكبر في برنامج الافتتاح الرياضي.

أخذنا المنظمون في رحلة مكوكية عبر الزمن، عرضت لنا التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تعرض لها المجتمع الإنجليزي، والمرحلة الانتقالية التي عاشها بسبب الثورة الصناعية وما تمخض عنها من ظهور طبقات جديدة واندثار طبقات أخرى، جعلت إنجلترا في زمن ما تصل ذروة نشوتها الاقتصادية بسبب ما حققته تجارتها المتمددة وراء المحيطات، بعد أن فرضت نفسها كأهم القوى الرأسمالية الصناعية في العالم آنذاك.

في تلك الحقبة التاريخية المهمة زاد الاهتمام بتراث الأدب الإنجليزي بعدما طرح ليلعب أدوارا أيديولوجية ملهمة بما يحمله من مبادئ سامية لتعزيز التعاطف وشعور الرحمة بين الطبقات، فضلا عن كونه دافعا للافتخار بلغتهم القومية، حتى أصبحت جامعات عريقة مثل كامبردج وأكسفورد تسعى إلى ترسيخ تراث الأدب الإنجليزي أكاديميا، فتلك المرحلة المفصلية في عمر الأمة الإنجليزية كانت تتطلب وجود رسالة وهوية قوميتين، ومن هنا كان التركيز على دراسات تراث الأدب الإنجليزي، مع الاهتمام بشعراء وأدباء مثل شكسبير وملتون حتى صار شاعرا مثل شكسبير يحظى بمكانة رفيعة تعادل مكانة الأنبياء والرسل لدى الشعب الإنجليزي، ونسجت حوله الأساطير مثل (العبقرية الشعرية)، فتراث الأدب الإنجليزي أصبح مرجعية أيديولوجية لخدام الإمبريالية الإنجليزية لترسيخ الإحساس بالهوية القومية حتى يتسنى لهم نشر هذه الهوية للشعوب تحت الاستعمار.

إن حاجة الإنجليز هي ذاتها حاجة العرب للتراث، وهي بعينها حاجة كل أمة إلى تراثها، فالتراث هو أصل الثقافة المعاصرة وبقدر ما يوحيه التراث من أصالة وعظمة فإن ثقافة المجتمع تتجدد وتتطور وتسلك مسلكا واعيا أساسه ومنطلقه التراث، فلا توجد أمة انطلقت نحو التحديث والتطور عبر ذاكرة خاوية، يقول الأديب والمفكر المعروف عبدالرحمن منيف في كتابه الديمقراطية أولا الديمقراطية دائما: «علاقة الأمة، أي أمة، بتاريخها وتراثها علاقة عميقة ومؤثرة، لأنهما يشكلان سندا لها ومصدرا تستلهم منه القدرة على الصمود والاستمرار والتقدم، ولأن من شأن هذين العنصرين أن يضفيا، حتى لا شعوريا، على الأمة ملامح وخصائص تميزها عن الأمم الأخرى».

فكلما تقدمت الأمة -أي أمة- زاد اهتمامها بالتراث، وزادت رغبتها في الحفاظ على التراث، فلا هوية للذات بغير الاستناد إلى التراث، عكس ما يراه بعض المفكرين العرب، الذين جردوا الماضي من كل فضيلة واعتبروه عبئا على الحاضر وكابحا للتقدم نحو مستقبل أفضل، بل إنهم صنعوا خصومة وجدلية مفتعلة لا أساس لها بين التراث والتحديث، بدعوى أن الماضي يتعارض مع مظاهر العلمية التي يتسم بها العصر الحديث. وهذه النظرة رغم مظاهر العلمية التي تدعيها فإنها نظرة مستلبة وعاجزة عن إقامة علاقة مع الواقع، ومع النبض الحقيقي للجماهير والدوافع التي تحركها.

يعرف عبدالرحمن منيف التراث بقوله: «أما التراث فهو تلك الحصيلة من المعارف والعلوم والفنون والآداب والعادات والإنتاج المادي التي تراكمت عبر التاريخ، وكان نتيجة جهد مشترك ومتواصل لمجموع الأمة، وانتقل كله أو أجزاء منه من جيل إلى جيل ليشكل بالتالي مظاهر مادية ونفسية ونمطا في السلوك والعلاقات، وطريقة في التعامل والتذوق»، وهذا التراث كما يراه منيف، يمكن أن يدفع ويساعد إذا نظرنا إليه نظرة موضوعية، وأكدنا على الجوانب الإيجابية فيه، واستخرجنا العناصر الحية منه، لكي تستمر وتنمو وإذا هضمناه هضما جيدا، دون أن نغفل عن نبض العصر وحاجاته. أما إذا رفضنا هذا التراث، جملة وتفصيلا واعتبرناه متخلفا وعبئا على الحاضر والمستقبل، فإننا لا بد نملأ الفراغ الحاصل بردفه بتراث حضارات أخرى، حضارات مختلفة، وعندها لن نكون قادرين على استيعاب هذا التراث الجديد وتوطينه، ولن نكون على اتصال أو تواصل مع تراثنا، مما يجعل العودة إلى الجوانب الحية فيه أكثر صعوبة.

في الدول المتقدمة هناك مؤسسات كبرى ليس لها من عمل إلا البحث والتنقيب عن التراث، ثم الاحتفاظ به وصيانته، ثم عرضه للعالم بأجمل وأبهى حلة، ثم تقوم بعد ذلك المدارس والجامعات في تلك الدول بتضمين أجزاء كبيرة منه في المقررات الدراسية بما يشتمل عليه من قيم ثقافية، لتبث في وجدان الطلاب قبسا من الإلهام والاعتزاز والإحساس بالمسؤولية تجاه الأمة ومكانتها بين الأمم، فالتراث هنا يتم ترسيخه في العقل اللاواعي لدى النشء، وتراث الأدب الإنجليزي -على سبيل المثال لا الحصر- صار جزءا لا يتجزأ من منظومة التربية والتعليم في بريطانيا، سواء في المراحل المدرسية أو المراحل الجامعية.

في العالم العربي والإسلامي برزت قضية «التراث» كواحدة من أهم وأخطر القضايا، فقد تراجع الاهتمام بالتراث بشكل كبير كنتيجة طبيعية للانبهار بثقافة الآخر ومنظومة القيم لديه، تولد عنها حالة من النزوع نحو جلد الذات والهجوم على السائد والموروث، ثم التماهي مع ثقافة الغالب والإذعان الكامل لمنظومة القيم الرمزية لديه، وبداية من القرن العشرين وحتى الآن لم يستطع العرب أن يحققوا أي إنجاز، سواء على مستوى الفكر أو على مستوى الممارسة، وكلما زادوا تقليدا للغرب زاد تخلفهم، وشعروا أكثر من قبل أنهم مستهدفون وموضع مساومة.