اجتماع وارسو الذي ضم ستين دولة من أجل العمل على السلام في الشرق الأوسط، شأنه في رأيي شأن كثير من اللقاءات الشكلية التي يُراد منها ما ترمز إليه فقط، ولن يكون له أثر عملي إلا من خلال قدرة بعض الدول على تحويل مجرياته لصالحها من ناحية إعلامية، أو في اتخاذه مفتاحاً لاستصدار بعض القرارات لدى المؤسسات الأممية أو لدى الدول المشاركة، وهو ما حدث فعلاً في وارسو، حيث كان مقرراً أن يُبحث في ذلك اللقاء عددٌ من القضايا المتعلقة بالسلام في الشرق الأوسط، إلا أن الذي نضح إعلامياً هو الاتفاق على كون إيران المهدد الأكبر للأمن في هذه المنطقة من العالم، هذه النتيجة حاول الإعلام المتعاطف مع إيران التقليل من شأنها، وذلك بإثارة كون هذا المؤتمر عبارة عن تحالف سعودي صهيوني ضد إيران، الأمر الذي يُظْهر إيران أمام الرأي العام الإسلامي وكأنها الذائدة عن حياض العرب والمسلمين في مواجهة الصهاينة، وأن السعودية هي الخائن المتواطئ مع العدو الأول للعرب والمسلمين ضد دولة مسلمة تحمل هم الأمة ويتآمر الكون عليها.

 للأسف وكالمعتاد فإن شريحة كبيرة من الرأي العام العربي من مغردين ومدونين مستقلين ومؤدلجين انساقوا مع هذا الطرح، وأخذ بعضهم في تدبيج مقالات تُحَذِّر من التحالف مع الصهاينة، وأن ذلك سيكون على حساب القضية الفلسطينية، وأنه تمهيد للتطبيع مع الكيان الصهيوني..

 وفي المقابل نجد أن الإعلام الضد المناوئ لإيران قد أخذ اتجاهين:

 الأول: منسجم للأسف مع هذا المنطق لأن قضية التطبيع لا تعني له كثيراً، إذ هو منتمٍ لدول مطبعة مع الصهاينة أو لديها خُطوات جادة في هذا الاتجاه.

 الآخر: إعلام ليس معنياً بالرد على ذلك المنطق بقدر اعتنائه بإبراز المحصلة النهائية، وهي أن حشداً من ستين دولة أدانوا إيران؛ أما أثر وجود الكيان الصهيوني في ذلك التجمع فليس محل عناية لديه.

 والذي يبدو لي أن المملكة العربية السعودية إذا استفادت من هذا المؤتمر حشداً سياسياً ضد إيران فهذا حقاً مكسب عظيم يستوجب خطوات لتعزيز هذا الموقف الجمعي، بالحصول على مواقف فردية بين السعودية وتلك الدول؛ لكن لا ينبغي أن يؤدي ذلك لزيادة خسائرها في الرأي العام العربي والإسلامي، والذي في غالبه مختطف لا تزال الحقائق عن السعودية مقلوبة عليه، ولذلك لديه الاستعداد التام لتصديق أي تزوير أو سوء استخدام للمعومات التي تُقَدَّم عنها. ينبغي في تقديري العمل بقوة على إبراز الحقائق التي يحاول الإعلام المضاد للمملكة إخفاءها تحت صوت الضوضاء ومنها: أن المملكة العربية السعودية ليس لديها حتى الآن أي علاقات معلنة أو غير معلنة مع الكيان الصهيوني، وأن من يدَّعون علاقات غير معلنة أو تحت الطاولة، تمت مطالبتهم منذ سنوات بإبراز تسريب واحد لما يزعمونه فلم يستطيعوا تقديم أي شيء يحقق ذلك. كل ما يفعلونه هو تداول لقاء أناس في غير موقع المسؤولية ولا يمثلون إلا أنفسهم بمسؤولين صهاينة، وقد نفت الدولة ارتباط تصرفاتهم بها، ومنهم من أحيلوا للتحقيق والمنع من السفر جراء ما قاموا به، وفي النهاية فإن اللقاءات لا تعبر عن مواقف الدول.

ومن هذه الحقائق: أن القناة 13 الصهيونية -كما نَشَر ذلك التلفزيون الروسي العربي في موقعه الإلكتروني- نقلت في الثامن من فبراير الماضي تقارير تؤكد فشل جميع المحاولات لإقناع السعودية بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، وتمسك السعودية بالمبادرة العربية، والتي تتضمن كون القدس عاصمة لفلسطين، وحق العودة لجميع الفلسطينيين.

 كما أن الأمير تركي الفيصل الذي كانت له لقاءات في مناسبات عامة مع صهاينة بعد ابتعاده عن موقع المسؤولية أكد في لقائه المتلفز الأخير مع إحدى القنوات الصهيونية (لا يدل نقلي هذا على تأييد موقف الأمير من قبول اللقاء مع القناة): أن السعودية ليست في وارد التطبيع مع الكيان الصهيوني (أسماه إسرائيل) وأكَّد على اشتراط القدس عاصمة لفلسطين وعلى حق عودة اللاجئين.

 وحقيقة ثالثة: هي أن صوت المملكة العربية السعودية كان أقوى الأصوات في استنكار موقف الولايات المتحدة، حين اعترفت بالقدس الشرقية عاصمةً للكيان الصهيوني، وأنها أسمت المؤتمر الإسلامي الذي أقيم في شرق المملكة بمؤتمر القدس تأكيداً على موقفها من القضية الفلسطينية. إذاً على ماذا يعتمد أولئك الذين استنتجوا من مؤتمر وارسو اصطفاف السعودية مع الكيان الصهيوني؟

 الحقيقة الجلية: أن اتهامهم هذا يعبر عن موقف مُسبق مقصده الإساءة للمملكة العربية السعودية أمام الرأي العام العربي الذي دُجِّن كثيرٌ من تياراته للأسف على إساءة الظن بالسعودية دون أن يحتاج إلى مستندات، ومع ذلك فقد استغلوا مشاركة رئيس وزراء الكيان ومشاركة وزير الدولة للشؤون الخارجية لبناء تلك النتائج عليها، وهو مستند باهت إذ في كل التقاليد الدبلوماسية المكتوبة أو المتعارف عليها، لا يعني حضور أي مسؤول مؤتمراً تشارك فيه دولة عدوة التحالف معها؛ ثم إن إغفال حقيقة أنه لم يحصل أي مواجهة بين الرجلين، والالتفات إلى مجرد الحضور، أكبر دليل على أن الحقيقة ليست هي المرادة وإنما المراد محض الإساءة، لأنني أجزم لو أن الوزير عادل الجبير اعتذر عن حضور المؤتمر لوجود الرئيس الصهيوني فلن يتخلى الإعلام المتعاطف مع إيران عن مزاعمه في التقارب السعودي الصهيوني؛ وهو يفعل ذلك قبل المؤتمر وبعده، ولن يخرج عن صمته عن العلاقات الوشيجة بين الصهاينة والدول المُصَدِّرَة لهذا الإعلام.

 أنتقل إلى النقطة الأهم في هذا المقال، وهي مدى صحة دعاوى الصهاينة بعداوتهم لنظام الملالي ورغبتهم في القضاء عليه؟

 التاريخ والوقائع تثبتان أنها دعاوى كاذبة، فالودائع البنكية الإيرانية والتي تم الكشف عنها بعد اتفاق 5+1 في نهاية عهد الرئيس أوباما تؤكد أن العلاقات قد تجاوزت حدود المصالح المشتركة إلى التبادل المالي في زمن ضرب الحصار على إيران، حيث أثبتت تلك الودائع أن الكيان الصهيوني كان إحدى الرئات التي كان الإيرانيون يتنفسون منها، وحقيقة أن الصهاينة كانوا أحد الداعمين لإيران في حربهم ضد العراق أصبحت بعد فضيحة إيران كونترا أشهر من أن تُعَرَّف؛ ليس هذا وحسب بل هناك الكثير من البَيِّنات كشفها العديد من الباحثين على رأسهم الباحث الأميركي الإيراني تريتا بارسي في كتابه «الحلف الغادر بين إيران وإسرائيل وأميركا»، ويؤكد الواقع تلك البينات، حيث إن كل ما جرى ويجري في العراق وسورية ولبنان واليمن على يد إيران يصب أولاً في مصلحة الكيان الصهيوني من وجوه متعددة، أهمها وأبرزها أنه جعل قضية فلسطين في مرتبة متأخرة من اهتمامات السياسيين والشعوب والمثقفين والإعلاميين؛ بل ظن البعض أن الصهاينة أصدقاء إذا ما قورنوا بالإيرانيين.

 أما إصرار إيران والصهاينة على إظهار نفسيهما كعدوين، فلذلك فوائد مشتركة لكلا الطرفين، فكلٌ منهما يُسَوِّق لنفسه ويُسَوِّق لصاحبه بادعائه عداوة الآخر، فإيران تُظهر نفسها حامية حمى الإسلام، والصهاينة يعجبهم أن تبدو إيران في نظر المسلمين وفي نظر العالم كذلك، فإن انجذاب العرب والمسلمين ولا سيما الفلسطينيين نحو هذه الدولة الإرهابية يؤكد للعالم الدعايات الصهيونية بكونهم يعيشون وسط بحر من القتلة وسفاكي الدماء.

 كما أن التخادم بين الصهاينة وإيران لا يمكن أن يصلح إلا في مشهد تمثيلي من العدائية المفرطة.

 وحضور نتنياهو مؤتمر وارسو ليس خروجاً عن هذا التقليد، فهو إمعان في محاولة إظهار إيران الإرهابية التي تقتل النساء والأطفال في سورية والعراق والأحواز في مظهر العدو لدولة الصهاينة المظلومة، والتي تسعى لإقامة علاقات مع السعودية التي يسعى نتنياهو لإسقاطها في نظر الرأي العام الإسلامي لتحل إيران محلها في قيادة المسلمين.

 ليس حضور نتنياهو في هذا المؤتمر في موقف مناوئ لإيران متودد للسعودية سوى تكبير لصورة ضباط الجيش والمخابرات الصهاينة الذين يكتبون في توتر بلغة معادية لإيران متوددة للسعودية، وللأسف تنجذب لهم شريحة من الرأي العام، مع أن الصورة الحقيقية عكس ذلك تماماً، وهذا ما يريدون.

 لذا فإن الحصار الذي يرغب ترمب ضربه على إيران ستثبت الأيام أنه مخترق، وأن اختراقه كان على يد الصهاينة مباشرة أو بواسطة الأصدقاء المُشْتَركين بين إيران والكيان الصهيوني، سواء أكانت دولاً إسلامية كقطر وتركيا أم ليست كذلك كروسيا والصين.